نجوى الهمامي صحفية استقصائية حاصلة على عدة جوائز ومدربة في الصحافة وقضايا الهجرة واللجوء. سيرتها المهنية حافلة بالتحديات، كان آخرها استقالتها من قناة الحوار بعد إلغاء برنامجها "ما لم يقل" بسبب ضغط من الحكومة. مع تفاقم الأزمة السياسية واستهداف الصحفيين في تونس، كادت نجوى أن تترك المهنة، لولا أن المعهد العربي لحقوق الإنسان أتاح لها الفرصة للبدء بمشروع إذاعة مجتمعية في حي السيدة المنوبية، أحد أفقر الأحياء في تونس. اليوم تدير نجوى إذاعة السيدة إف إم، والبرامج التي تقدمها ساهمت في تحقيق تغيير ملموس لأهالي هذا الحي.
من أين أتت فكرة إنشاء إذاعة مجتمعية في حي السيدة في تونس؟
نحن في المعهد العربي لحقوق الإنسان كنّا نحلم بتأسيس إذاعة تنشر ثقافة حقوق الإنسان وتعطي صوتا لمن لا صوت لهم.
أدركنا أن أغلب السكان لم يكونوا على دراية بحقوقهم الأساسية، ومن هنا أتت فكرة إنشاء إذاعة تعرّفهم بحقوقهم، وتسعى لتغيير النظرة السلبية عنهم في الإعلام.
الإذاعة موجودة في حي السيدة المنوبية، أحد أفقر الأحياء الشعبية في العاصمة. هذا الحي يفتقر للخدمات العامة، فلا توجد مستشفيات ولا مراكز أمن. هناك مستوصف واحد فقط يفتقر لأغلب الإمكانيات ومدرستان آيلتان للسقوط. نسبة الأمية في المنطقة تكاد تفوق 70 في المئة، وأغلب السكان عاطلون عن العمل، 3 في المئة فقط يعملون في قطاعات مهمشة.
وسائل الإعلام في تونس تصوّر أهل الحي دائما بشكل سلبي، ولا تتحدث إلا عن أخبار الإجرام وترويج المخدرات. وأحيانا تقوم الشرطة بإيقاف المواطنين بدون مبرر قانوني، فقط لأن بطاقة الهوية تذكر أنهم من حي السيدة المنوبية أو حي هلال المجاور.
منذ عام 2011 والمعهد العربي يعمل في المنطقة للقيام بتغيير. بدأنا بجولة في الحي لرصد آراء المواطنين والمواطنات عن البرامج يريدون الاستماع إليها والقضايا التي يريدون أن نتطرق إليها، وقمنا ببناء علاقة إيجابية معهم. أدركنا أن أغلبهم لم يكونوا على دراية بحقوقهم الأساسية، ومن هنا أتت فكرة إنشاء إذاعة تعرّف المواطنين والمواطنات بحقوقهم، وتسعى لتغيير النظرة السلبية عنهم في الإعلام.
كيف تمكنتم من كسب ثقة المواطنين في الحي لإنشاء الإذاعة؟
لم يكن الأمر سهلا. في البداية ظن البعض أننا نجمع معلومات عنهم لإعطائها للسلطات الأمنية. فأغلب وسائل الإعلام كانت تصوّر الحي على أنه وكر للإجرام. أذكر أن أحد الصحفيين ذهب إلى الحي وأعطى أحد المواطنين رشوة خمسين دينار تونسي (16 دولار أمريكي) لكي يقول إن من يعيشون في الحي هم مجرمون. وتم بث التقرير دون جدل، على الرغم من أن المواطنين في الحي احتجوا على ذلك. ولذا فهناك أزمة ثقة ما بين أهالي الحي ووسائل الإعلام.
عقدنا اجتماعا مع أهالي الحي الذين كانوا يشكّون بنوايانا ووضحنا لهم أهداف الإذاعة، وبدأت فكرتهم عنّا تتغير تدريجيا. إضافة إلى ذلك لدينا علاقات إيجابية مع أطفال الحي لأن المعهد ينظم نشاطات لهم، وهذا أيضا ساهم في تحسين علاقاتنا مع الكبار في الحي.
ما هي البرامج التي تقدمها الإذاعة؟
كل المواضيع المطروحة على إذاعة "السيدة إف إم" تنطلق من الحي، وتعتمد سياستنا التحريرية على طرح المشاكل ثم إيجاد الحلول لها.
لدي برنامج صباحي يبث كل اثنين وجمعة اسمه "صباح السيدة"، نطرح من خلاله القضايا التي يثيرها المواطنون من فقر الخدمات إلى العنف ضد المرأة وزواج القاصرات وغيرها. ونستضيف مسؤولين للتحدث عن هذه المشاكل.
أتتني فكرة للعمل على مواضيع تتعلق بعمل النساء بعد أن حضرت ورشة عن الصحافة المراعية للجندر مع شبكة ماري كولفن للصحفيات. أجريت مقابلات مع بعض النساء في الحي، وأخبرنني أنه كان من المفترض أن تنفذ الدولة مشروعا لتمكين النساء اقتصاديا ولكن ذلك لم يتم. فاستدعينا مسؤولين من وزارة الشؤون الاجتماعية وحصلنا منهم على وعد بتنفيذ المشروع، وبالفعل تم ذلك وحصلت بعض النساء على منح لإنشاء ورشات لصناعة الأواني الفخارية.
الأطفال في الحي لم يفكروا يوما أن لهم مستقبل. لم يكن لهم طموح حتى في إنهاء الدراسة. لكنهم الآن تمكنوا حتى من إقناع أهاليهم بالتعلم، وبفضل إصرارهم أنشأنا مركزا لتعليم الكبار.
استضفنا أيضا وزير التربية وسألناه عن مدرستين في الحي كانتا آيلتين للسقوط وتفتقران لأبسط الإمكانيات. واكتشفنا أن هناك ميزانية كبيرة كانت قد خصصت لإعادة تأهيل هاتين المدرستين ولم تكن قد صرفت بعد، فأجرينا تلك الحلقة من البرنامج في داخل إحدى هذه المدارس ودعونا جمعيات خاصة للحضور وتمكنّأ من الحصول على التزام من وزارة التربية أمام الضيوف بالبدء بالمشروع وقد تم ذلك بالفعل.
جزء كبير من عملنا، في المعهد وفي الإذاعة أيضا، هو مع الأطفال. فالحي لا توجد فيه مساحات مهيئة لهم للعب ولا توجد مكتبات أيضا. لذا أقمتُ دورات تدريبية مكثفة مع مجموعة من الأطفال، تترواح أعمارهم بين 8-15 عاما، في فنون الإذاعة وإنتاج التقارير. وهم الآن ينتجون برنامجا خاصا بهم بعنوان "صغار السيدة" يبث كل يوم أحد يتحدثون فيها عن القضايا التي تهمهم. هؤلاء الأطفال هم من بنوا ثقة بيننا وبين أهالي الحي، ويخرجون كل أسبوع لتصوير تقاريرهم ويقدمون البرنامج أيضا، ودوري الآن يقتصر فقط على إجراء إجماع تحريري أسبوعي لهم.
هؤلاء الأطفال لم يفكروا يوما أن لهم مستقبل. اقصى ما كانوا يتمنونه هو أن يكملوا الثانوية، ومن ثم العمل في مصنع للأحذية مثلا. لم يكن لهم طموح حتى في إنهاء الدراسة. لكنهم الآن تمكنوا حتى من إقناع أهاليهم بالتعلم، وبفضل إصرارهم أنشأ المعهد مركزا لتعليم الكبار.
ماذا عن الأزمة السياسية التي يمر بها تونس، والتي أثرت على حرية الصحافة والتعبير؟ إلى أي مدى تؤثر حالة التوتر هذه على عمل الإذاعة؟
الوضع في تونس اليوم خطير جدا. الكثير من الصحفيين تم إيقافهم وتهديدهم. وبدلا من العمل بمرسوم 116 المتعلق بحرية الاتصال السمعي والبصري، توجه للصحفيين تهم بموجب القوانين المتعلقة بالإرهاب والأمن القومي.
إذاعتنا ليست بمنأى عن ذلك، ولكننا لا نتحدث عن السياسة وهذا يحمينا إلى حد ما. نحن نسعى لتفسير القانون وتوعية المواطنين بحقوقهم وكيفية التصرف في حال تم اعتقالهم أو تعرضوا لاعتداء جسدي. وفي نفس الوقت نحن متضامنون مع كل وسائل الإعلام التي تعرضت لمضايقات وشاركنا في الإضراب العام الذي دعت له نقابة الصحفيين في مارس آذار.
إلى الآن لم نتعرض للانتقاد من قبل أي جهة لأننا نركز في عملنا على صحافة الحلول، وهذا ساعد على ارتفاع عدد المستمعين للإذاعة.
بفضل الدعم الذي تلقيته من شبكة ماري كولفن للصحفيات لم أعد أخاف لأنني أدرك أن هناك شبكة تستطيع دعمي نفسيا ومعنويا.
ولكننا نواجه تحديات أخرى، أهمها كيفية ضمان استمرارية الإذاعة لأن مصادرنا المالية محدودة ونعتمد بالدرجة الأولى على بعض الدعم من مؤسسات مثل كونراد أديناور واليونسيف. الطاقم مكوّن من خمسة موظفين فقط والبقية هم متطوعون وبالتالي لا يمكننا أن نطلب الكثير منهم.
ما الذي أضافته هذه التجربة لمسيرتك المهنية، خاصة وأنكِ تعرضت لتحديات جمة في مشوارك الصحفي قبل أن يتم تأسيس الإذاعة؟
قبل ثلاث سنوات ونصف، تقدمت باستقالتي من قناة الحوار لأن البرنامج الذي كنت أقدمه تم إلغاؤه بعد مكالمة هاتفية من رئاسة الوزراء لأن المواضيع التي كنت أطرحها كانت تزعجهم. لم تكن هناك فرص عمل أخرى وكان عليّ أن أقرر: إما أن أستمر في الصحافة رغم أنها قد تكلفني الكثير، أو أن أترك المهنة بالكامل.
في تلك الفترة، طلب مني المعهد العربي أن أدير مكتب الإعلام والاتصال لديهم، فوافقت لأنني أردت الابتعاد عن المشاكل وتجربة العمل في قطاع ليس ببعيد عن الصحافة. وبالفعل تعلمت الكثير عن القانون وكيفية طرح المواضيع المتعلقة بحقوق الإنسان، وهذا ما دفعني للنظر في صحافة الحلول، وأدركت أنه يمكن أن يكون للإعلام تأثيرا أكبر إن اقترب أكثر من المواطنين وفهم دوره الحقيقي في المجتمع. منذ أن انضممت للإذاعة عرضت عليّ فرص أخرى لكنني رفضتها رغم امتيازاتها لأنني أريد التركيز على هذا المشروع.
وبالتأكيد فإن عضويتي في شبكة ماري كولفن للصحفيات ساهمت كثيرا. بفضل الدعم الذي تلقيته من الشبكة لم أعد أخاف لأنني أدرك أن هناك شبكة كاملة تستطيع دعمي نفسيا ومعنويا وهو أمر غير موجود في المؤسسات الأخرى.