بعد ثمانية عشر عامًا من تغطية الحروب في العراق وسوريا، استقالت أروى دامون من منصبها ككبيرة مراسلي شبكة "سي إن إن" الدولية في حزيران يونيو 2022. والآن تركّز أروى، إحدى مرشدات شبكة ماري كولفن للصحفيات، على مؤسستها الخيرية "إنارة" لتقديم مساعدات طبية للأطفال الذين أصيبوا في الحروب، بينما تواصل أيضا العثور على طرق جديدة لرواية القصص من خلال الأفلام الوثائقية والمشاريع الإبداعية.
كيف تبدو الحياة الآن بعد "سي إن إن"؟
بصراحة، هي جيدة، مع أن عملي أصبح أكثر صعوبةً لأنه لم يعد بإمكاني التعريف عن نفسي ك"أروى دامون من سي ان ان". أفتقد إمكانية الوصول إلى العديد من المصادر وجهات الاتصال التي تتاح فقط أثناء العمل في مؤسسة كبيرة. لقد أحببت عملي في "سي إن إن" وأفتقد زملائي هناك. لكنني الآن في فصل جديد من حياتي وأريد سرد القصص بطريقة مختلفة.
أركّز حالياً على مؤسستي "إنارة"، وعلى مشروع جديد بعنوان Amplify Voices، بالإضافة إلى تصويري لفيلم وثائقي. حياتي الآن فوضوية ومثيرة في آن واحد.
هل يمكن أن تخبرينا قليلاً عن الفيلم الوثائقي؟
تعود فكرة الفيلم إلى قيمي الأساسية كصحفية، فأنا أبحث دوماً عن وسائل وطرق لرواية قصص الناس وإيصالها للمجتمع الغربي. للأسف، هناك حالة من اللامبالاة اليوم تجاه اللاجئين وقصص الحرب. لذا يتحدث الفيلم الوثائقي عن مجموعة من اللاجئين من دول مختلفة. لا يعرفون بعضهم البعض، ولكن تجمعهم تجربة العيش في المنفى.
ينطلقون في مغامرة إلى قمة جبل كيليمنجارو. ومن خلال هذه المغامرة يتقاربون من بعضهم البعض، وهذه فكرة جديدة للكشف عن قصصهم.
أردت أن أنقل عن الرواية الموجودة على في مخيمات اللاجئين، أملا في أن تظهر في سجلات التاريخ في يوم ما.
الفيلم فيه نوع من العلاج النفسي، فأنا أحب الطبيعة وأجد شفاءً عاطفياً في التحديات الجسدية. التحدي في فيلمي لا يكمن في الوصول إلى قمة الجبل، بل في وصول المشاركين إلى قممهم الشخصية. فكلهم يكتشفون في هذه المغامرة أشياء جديدة عن أنفسهم.
مشوارك المهني هو بمثابة حلم للعديد من الصحفيات. إلى أي مدى كان صعبا لك أن تحصلي على وظيفة مع "سي إن إن"؟
أصولي سورية – أمريكية، ونشأتي متعددة الثقافات حيث ترعرعت في المغرب وتركيا.
كنت أعمل في مصنع للأقمشة التركية في مدينة نيويورك عندما وقعت هجمات الحادي عشر من سبتمبر أيلول، وفي أعقابها شعرت أن الفجوة ما بين الشرق والغرب أصبحت أكثر اتساعا. كان العرب يتعرضون للهجوم، لكنني لم أعاني من ذلك شخصياً لأنني أمريكية المظهر.
حتى قبل ذلك، كان أصدقائي الأمريكيون يستمعون إليّ باهتمام عندما أتحدث عن ما يحدث في الشرق الأوسط، خاصة عن أماكن كفلسطين - والتي كانت لا تزال تهيمن على عناوين الأخبار- وذلك لأني أمريكيّة بالنسبة لهم.
لذا، عندما وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر أيلول، شعرت بحاجة لأن أكون صحفية لأنني كنت واثقة أنه بإمكاني سرد تلك القصص بطريقة يفهمها المجتمع الغربي. أعتقد أن هذه الأفكار الساذجة والمثالية موجودة لدى الكثير من الصحفيين في بداية مشوارهم المهني.
أرسلت سيرتي الذاتية إلى شبكة "سي إن إن" و "إن بي سي" و "أي بي سي"، وأي مؤسسة أخرى يمكن أن تتخيّليها. معظمهم لم يجيبوا على رسائلي، لكن بعضهم قالوا لي إنني بحاجة لاكتساب الخبرة أولاً قبل أن أسعى لتغطية أهم قصة في ذلك الوقت، وهي الغزو الأمريكي الوشيك على العراق.
فوجدت وظيفة في شركة إنتاج صغيرة تسمى "كاميرا بلانيت" لكي أساعدهم في التخطيطات اللوجستية لإدخال فريقهم إلى العراق. كنت أتواصل مع مسؤولين من وزارة الإعلام العراقية، وكانوا يستمتعون بالتحدث اليّ لأنهم اعتبروني "شقيقة سورية" لهم. في النهاية، حصلت أنا ايضاً على تأشيرة دخول إلى العراق، وذهبت هناك قبل الغزو بقليل. ولكن تم طردي من العراق قبل بدء الحرب مع عدد من الصحفيين.
تواصلت مع "سي إن إن" مرة أخرى لكنهم لم يوظفوني. وكانت الطريقة الوحيدة للعودة إلى العراق هي أن أتولى وظيفة مختلفة كمندوبة مبيعات لشركة تبيع المراحيض المتنقلة والسترات الواقية. حين وصلت إلى بغداد هذه المرة، ذهبت إلى مكتب "سي إن إن" وعرّفت عن نفسي. وفي النهاية حصلت على أول مهمة كمراسلة مستقلة معهم.
في البداية، كنت سيّة جداً أمام الكاميرا. وعندما أشاهد تقاريري السابقة، يصعب على الفهم كيف أنهم سمحوا لي بأن أبقى على الهواء! بذلت جهدا كبيرا لأطوّر نفسي. في ذلك الحين، لم يكن في مكتب بغداد غرفة للتسجيل فكان عليّ أن أسجل تقاريري أمام الجميع. كان الأمر مهينًا ومحرجًا، ولكني هكذا تعلمت.
كيف تقارنين التحديات التي واجهتك بتجارب عضوات شبكة ماري كولفن للصحفيات اللواتي عملتِ معهن كمرشدة؟
الصحفيات الإناث اللواتي يعملن في وسائل إعلامية محلية في منطقتنا يواجهن اليوم الكثير من التحديات التي لم أكن مضطرة للتعامل معها في السابق، خاصة لأنني أمريكية الجنسية وبإمكاني المغادرة في أي وقت.
لكنني أرى أن هناك شعورا متزايدا بالإحباط لهن عندما يتم رفض اقتراحات لقصص إخبارية، إما بسبب الرقابة أو لعدم الاكتراث. وأنا أشاركهن هذا الشعور. أتذكر شعوري بالإحباط عندما اختفت أخبار الحرب في سوريا من النشرات. كنت أخوض جدالا كبيرا في "سي إن إن" لكي أواصل الذهاب إلى سوريا وإرسال التقارير من هناك. كان البعض يسألني ما الهدف من ذلك طالما أن الوضع هناك لم يتغيّر.
مررت بمرحلة مظلمة للغاية أثناء تغطية الحروب. كنت أحاول التعامل مع مشاعر متضاربة وكان الغضب الطريقة الوحيدة لذلك.
أدركت عندها أنه يجب أن أغيّر طريقة تفكيري. لم أعد أريد الذهاب هناك ظنا منّي أن سرد القصة سيحدث فرقا كبيرا. وإنما أردت أن أواصل سرد القصص كي لا نترك كتابة التاريخ للمنتصرين. أردت أن أنقل عن الرواية الموجودة على في مخيمات اللاجئين، أملا في أن تظهر في سجلات التاريخ في يوم ما.
يجب علينا كصحفيين أن ندرك أن ما نقوم به قد لا يكون أثره كبيرا في الوقت الحالي، ولكن علينا أن نضمن أن القصص الفريدة التي نغطيها ستصبح أيضًا جزءا من سجلات التاريخ.
عضواتنا هن أيضًا جزء من القصة، لأنهن يعشن الحروب والعنف في بلدانهن، وذلك يؤثر على صحتهن النفسيّة. هل مررتِ بذلك أيضا؟
لقد مررت بمرحلة مظلمة للغاية. كنت أحاول التعامل مع مشاعر متضاربة آنذاك وكان الغضب الطريقة الوحيدة لذلك. كنت في حالة مدمرة ومسمومة، وقد أثر ذلك على الكثير من علاقاتي وأسلوب تعاملي مع العالم خارج نطاق الحرب.
شعرت بالذنب لأنني كنت قادرة على مغادرة أي بلد بعد تغطيته. كان من الجنون أن أذهب إلى مخيم للاجئين، حيث يتجمد الأطفال من غير أحذية، وتتساقط القنابل فوق رؤوسهم، وأن أنتج تقريرا صحفيا، ثم أعود إلى اسطنبول لأستحمّ بماء دافئ. لكنني في السنوات الخمس الماضية تمكنت أخيرا من تحويل هذا الشعور بالذنب إلى إدراك بأن عليّ أن أكون ممتنة للأمور التي أملكها. هذا هو أحد الأسباب التي دفعتني إلى إنشاء مؤسسة "إنارة" حيث نقدم المساعدات الطبية والنفسية للأطفال المتأثرين من الحروب. هذه الجمعية التي تضمن حصول الأطفال على خدمات أفضل أنقذتني أنا ايضاً.
ولديك الآن مشروع جديد، Amplify Voices Alliance، والذي يهدف إلى سرد العديد من القصص التي تم تجاهلها في التغطيات الإخبارية.
يلتقي الصحفيون دائما بأشخاص فريدين ولديهم قصص تستحق الرواية. لكن هذه القصص غالبًا لا تتناسب مع ما تريده المؤسسة الإعلامية. قد لا تتناسب القصة تماما مع الأخبار التي يغطونها في ذلك اليوم، وقد لا توجد مساحة كافية في البرامج لتغطيتها.
لهذا السبب أنشأت هذا الموقع حيث يمكن للصحفيين إرسال القصص التي لم يتمكنوا من سردها. يمكنهم أيضًا العمل مع الأشخاص أنفسهم لكي يتمكنوا من كتابة القصة بأسلوبهم الخاص. عند نغطي الأخبار، كثيرا ما نختصر كلام الناس أو نختزله ليلائم تقاريرنا الإخبارية، وهذا "ينقص" من مشاعرهم. لذا فإن الهدف من هذا المشروع هو أن يستعيد الناس السيطرة على قصتهم.
لكن ماذا بالنسبة للجمهور؟ نحن نعلم أن الناس أحيانًا يسأمون من سماع قصص معينة، فكيف تثيرين اهتمامهم مرة أخرى؟
سأجيب بمثال. لدينا قصة على الموقع الآن لرجل مصري يعيش في المنفى. كلنا قرأنا أخباراً عن مصر. لكن قصته لا تتعلق بالأخبار. لديه ثلاث بنات، كانت أصغرهن 15 يومًا فقط عندما اضطر إلى الفرار من مصر، والآن عائلته ممنوعة من السفر. فكتب لنا عما يعني أن تكون أبًا في المنفى. كيف يمكن تعريف معنى الأبوة في مثل هذه الحالة، عندما لا تستطيع أن تكون هناك وأن تلمس أطفالك؟ مسألة الأبوّة هي التي سيكون لها صدى عند الكثير من الناس.
ومع ذلك، أعتقد أنه لا ينبغي أن نختار القصص لمجرّد أنها تحظى بجاذبية جماهيرية واسعة. إذا ركزنا فقط على الجماهير، فإننا نستثني قدرًا هائلاً من القصص التي قد تهم شرائح أصغر. لا يهمني إن لم يكن هناك إلّا شخص واحد فقط مهتم بهذه القصة. أريد أن أنشر قصصا لأن هناك من يريدون أن يتعلموا عن هذه القضايا، و سيعثرون على هذا الموقع و يثقّفون أنفسهم.