شعرت بالأرض تهتزّ تحت قدميّ عندما شنّت إسرائيل أول غارة جوية على غزة بعد ظهر يوم 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، في حرب دامت ثمانية أيام.

كنت قد غادرت لتوّي مركزًا نسويّاً حيث كنت أدرّس التصوير الفوتوغرافي،  وكنت أحمل في حقيبتي الكاميرا والعدسة التابعتين للمركز.

كنت قد أمضيت العامين السابقين قبل ذلك في تعلم التصوير الفوتوغرافي والتقاط صور للحياة اليومية أو النشاط المحلي، وكنت أعمل أحيانا مع منظمات غوث ومجلات نسائية محلية. كنت استعير الكاميرات ومن ثم أنشر الصور على وسائل التواصل الاجتماعي. كان الصحفيون المحليون يسخرون مني عندما يرونني متوجهة لمظاهرة أو جنازة ويقولون "ها قد وصلت مصورة الفيسبوك". أردت أن أكون مصورة صحفيًة - على الرغم من أن الجميع من حولي أرادوا إقناعي بالعدول عن  ذلك - وأدركت أن هذه الحرب قد تكون فرصتي لتحقيق ذلك.

لم يكن الأمر متعلّقاً بوظيفة أو حتى كسب لقمة العيش. كل ما أردته هو أن يرى العالم ما كان يحدث من خلال صوري، ومن خلال ما كنت أراه.

هذه كانت فرصتي لتغطية حدث كبير واكتساب الخبرة.

لم يكن الأمر متعلّقاً بوظيفة أو حتى كسب لقمة العيش. كل ما أردته هو أن يرى العالم ما كان يحدث من خلال صوري، ومن خلال ما كنت أراه.

هرعت إلى مستشفى الشفاء القريب مني ولم أتردد في الدخول إلى مستودع الجثث (المشرحة) – كنت المرأة الوحيدة هناك – وبدأت بالتقاط الصور لقادة حماس وآخرين تم قتلهم. مكثت هناك لساعات عدة بينما تواصل العدوان الجوي طيلة الليل واستمرّ وصول الجثث إلى المستشفى.  

أمضيت  تلك الأيام الثمانية إما في مستودع الجثث (المشرحة) أو بصحبة الصحفيين الذين كانوا يهرعون إلى أماكن القصف. بالإضافة إلى التقاط الصور بنفسي، كنت أيضا أراقب طريقة عمل المصورين المحترفين، وأين يقفون، ونوعية العدسات التي يستخدمونها والزوايا التي يلتقطون منها الصور.

لكن الشيء الذي لم أتعلمه في ذلك الوقت كان كيفية عرض صوري أو بيعها لوسائل الإعلام المحلية أو الدولية. لذا واصلت تحميل صوري على صفحتي على فيسبوك طيلة تلك الأيام الثمانية، وبدأت الصفحات المحلية على فيسبوك بإعادة نشر صوري، وبدأ الناس بمعرفة اسمي وأعمالي. بعد انتهاء الحرب، قام المركز الذي كنت أدرّس فيه بنشر معظم الصور التي التقطتها.

منذ ذلك الوقت، لم يعد أحد يناديني "بمصوّرة الفيسبوك". لكنهم احياناً يلقّبوني بالمجنونة. 

 

سمر ترتدي الخوذة والسترة المصطنعتين. (2015)

 

في خريف 2013، كنت في شهري الثامن من الحمل بطفلي الرابع. وفي كل يوم جمعة، كان الشباب يتجمعون عند الحدود الشمالية لغزة للاحتجاج على الحصار الإسرائيلي. كان جنود الاحتلال يطلقون الغاز المسيل للدموع والأعيرة المطاطية، وفي بعض الأحيان كانوا يطلقون الرصاص الحي. ولكنني لم أتردد في النزول إلى الميدان.

في إحدى المرات، وبينما كنت أختنق بالغاز المسيل للدموع، نظرت امرأة أجنبية متضامنة إلى بطني الحامل ولم تستوعب ما كانت تراه.  كانت تكرر "أنت مجنونة" وهي تنظر الى بطني. لكنني ضحكت، لأنني كنت أعرف ما أفعله.

عندما بدأت الحرب في عام 2014 والتي استمرت 51 يومًا، كنت قد اشتريت كاميرا خاصة بي بعدما أخذت قرضا من صديقتي. وكنت أشعر بثقة أكبر في قدرتي على تغطية الحرب بمفردي بدلاً من العمل مع مصورين آخرين. خلال تلك الحرب، قمت ببيع البعض من صوري لوكالة دولية صغيرة، وواصلت نشر كل شيء على حسابي على فيسبوك.

لم أكن قلقة كثيرًا بفكرة موتي أو إصابتي. كل ما أردته هو أن أكمل عملي.

تواصل محررون في مجلة نيويورك معي بعدما رأوا صوري على صفحتي. كتبوا عني مقالاً موجزاً ونشروا تسعة من صوري، كان من من ضمنها بعضا من أصعب الصور التي التقطتها، كصورة لرجل يحمل جثة طفله الرضيع الذي قُتل وهو لا يزال في رحم أمه.

كنت فخورة بأن صوري باتت تصل إلى العالم.

في منتصف الحرب، شنت إسرائيل هجوما شرساً على حي الشجاعية شرق القطاع، مما أسفر عن مقتل عشرات المدنيين في ليلة واحدة. وعلى إثر هذا الهجوم، توافد الصحفيون إلى الحي لتوثيق القتل والدمار. كان الغضب عارماً بين سكان الحي، والبعض منهم وجّه غضبه  تجاهنا.

أحد الرجال كان في حالة صدمة بسبب فقدان منزله، فأمسك بكاميرتي وكاميرات صحفيين آخرين وحطمها كلها على الأرض. صُعقت. استجمعت بعضاً من قطع الكاميرا، بما في ذلك شريحة الذاكرة، وعدت إلى المنزل وانفجرت في البكاء، فهناك حرب جارية ولم يكن بحوزتي كاميرا لتوثيق ذلك. كما أنني كنت لا أزال أسدد القرض الذي أعطته لي صديقتي لشراء الكاميرا. 

 

والد وخال الشهيد يحيى خليفة (12 عام) يبكون داخل مستشفى الشفاء بعد التأكد من خبر استشهاده. الطفل يحيى قُتل بقصف اسرائيلي على حي الزيتون شرق مدينة غزة. سمر أبو العوف لصحيفة نيويورك تايمز (2021)

 

لكن لم يكن هناك وقت للشعور بالأسى على نفسي. فقررت أن آخذ شريحة الذاكرة الخاصة بي والتوجه إلى مستشفى الشفاء. وجدت هناك مصورين أعرفهم، فطلبت منهم استعارة إحدى كاميراتهم لبضع ساعات خلال استراحتهم. 

وضعت منشورا أيضاً على فيسبوك لطلب المساعدة لاستعارة كاميرا. مع نهاية الحرب، كنت قد استخدمت تسع  كاميرات مختلفة.

على مدار عام 2015، كان شباب غزة يتجمعون بعد صلاة الجمعة على طول الحدود الشمالية للتظاهر ومواجهة الجيش الإسرائيلي. وكان جنود الاحتلال يطلقون الغاز المسيل للدموع والأعيرة المطاطية.

في إحدى المرات رأيت صبيًا يبلغ من العمر حوالي 12 عامًا يسقط أمامي. بدأ الناس يصرخون بأنّ عبوة غاز أصابته في الرأس واستقرت في جمجمته. التقطتُّ صوراً بينما كانوا ينقلونه ووجهه ملطخ بالدماء.

في الأيام التي تلت ذلك الحدث بدأت أتساءل: ماذا لو كنت مكانه؟ لم أكن قلقة كثيرًا بفكرة موتي أو إصابتي. كل ما أردته هو أن أكمل عملي.

أدركت أنني بحاجة إلى سترة وخوذة. فحتى لو لم تكن كافية لإنقاذ حياتي أو حمايتي من الإصابة، إلا أنها ستميّزُني كصحفية من بين جموع المتظاهرين. 

ولكن لم يكن هناك أي مجال لاقتنائها أو تحمل كلفتها. كان أقرب شيء عندي يشبه الخوذة هي أوعية المطبخ التي أملكها. وجدت وعاءً من الألومنيوم يتناسب مع رأسي، واشتريت طلاءً أزرقاً لامعاً يتطابق إلى حد كبير مع لون السترات الواقية من الرصاص المكتوب عليها "صحافة". ثمّ وجدت كيس قمامة أزرق اللون وصنعت منه سترة واقية باستخدام الشريط اللاصق وكتبت على السترة كلمة "صحافة"، وعلى الوعاء كلمة "تلفزيون".

أردت إيصال رسالة بأنه حتى وإن كنت صحفية مستقلة، فإن لي  الحق في الحماية. 

في تلك اللحظة، شعرت أنني على بعد ثوانٍ  من أن أتحول إلى  تلك الصورة التي أمضيت حياتي المهنية في توثيقها.

 

نغم طلبه تنعي جثمان شقيقها محمود - سمر أبو العوف لصحيفة نيويورك تايمز. (2021)

 

لكني ترددت في ارتداء الخوذة والسترة المصطنعتين في الميدان خوفاً من سخرية الآخرين. فكثيرا ما كنت أسمع تعليقات من الآخرين لأنني واحدة من عدد قليل جدا من الصحفيات في هذا المجال. حاولت ارتداءهم مرتين، وكنت على وشك الخروج من  المنزل، لكني غيرت رأيي في اللحظة الأخيرة.

بعد شهر، ذكرتُ السترة والخوذة أثناء حديث مع زميل لي يعمل كمصور مستقل. فأصرّ بأنه يجب عليّ ارتدائهم عند ذهابي للحدود، واقترح أن ينشر صوري ومقاطع فيديو، وقال لي: " هذا سيوصل رسالة قوية".

في يوم الجمعة التالي، أخذت السترة والخوذة معي إلى الحدود، وارتديتها من دون أي تردد.

وبدأت النكات تنهال فورا: "ماذا ستطبخين؟"  

"ماذا يوجد في الوعاء؟ "

"طبختي مفتول؟"

لم أبال. أردت أن أثبت  أنني صحفيًة كالآخرين . 

قام صديقي بنشر الصور على فيسبوك، وعلى الفور بدأ صحفيون دوليون التواصل معي للكتابة عن قصتي وحياتي المهنية. في ذلك الوقت، كنت قد انضممت أيضًا إلى شبكة ماري كولفن للصحفيات. اتصلوا بي وطلبوا مقاساتي. كانوا قد ذكروا قصتي خلال حملة لجمع التبرعات في لندن، وعرضت إحدى الصحفيات هناك أن تقوم بتغطية تكلفة السترة الواقية والخوذة لي. *[1] *

كانت هذه هي المرة الأولى التي شعرت فيها بوجود أشخاص الى جانبي يدعمونني. صرت أشعر بأنني صحفية حقيقية لها الحق في أن تكون في الميدان مثل أي شخص آخر.

 

إذا علمت أن بيتي على وشك أن يتعرض للقصف سآخذ الوعاء الأزرق والسترة البلاستيكية - فهما يمثلان جرأتي وجسارتي.

سمر في الميدان مرتدية معدات الحماية الشخصية المناسبة. (2018)

 

لا أزال أحتفظ بالوعاء وكيس القمامة في خزانتي. أخرجهم بين الحين والآخر، وأنظر إليهم كأنهم صور.

في العام الماضي خلال حرب أيار/مايو 2021، بدأت العمل كصحفية مستقلة لصحيفة نيويورك تايمز. كان مريحا أن أعمل مع صحيفة واحدة فقط طيلة الصراع، دون القلق حول تغطية الحرب و العثور على مكان للنشر في نفس الوقت. كنت أيضًا سعيدةً جدًا لأن  صوري ستكون جزءًا من تغطية أحداث غزة في صحيفة مهمة كهذه وسيتم رؤيتها في جميع أنحاء العالم.

في أحد الأيام، في منتصف فترة النزاع تقريبًا، كنت في طريقي إلى مستودع الجثث (المشرحة) بعد أن وصلني خبر بأن فتاة صغيرة قُتلت في غارة جوية إسرائيلية، عندما اتصل بي أبنائي. كانت ابنتي تصرخ بأن صاروخًا تحذيريًا إسرائيلياً أصاب بنايتنا، وكانوا مرعوبين من أن شقتنا على وشك أن تدمر في غارة لاحقة.

لم أتمكن من الوصول إلى أبنائي  لأن الطرق المؤدّية إلى بنايتنا كانت قد أغلقت تحسباً للغارة. فطلبت منهم أن يقابلوني في شارع جانبي، ووجدتهم في نفس حالة الهلع والذعر ككل الأشخاص الذين التقطت صورهم في لحظات مماثلة. رأيت الخوف على وجوههم، وكان ابني البالغ من العمر 9 سنوات حافي القدمين، بينما كانت ابنتي البالغة من العمر 17 عامًا ترتدي شالًا للصلاة كانت قد غطت به نفسها في عجلة قبل أن يفروا من منزلنا.

في تلك اللحظة، شعرت أنني على بعد ثوانٍ  من أن أتحول إلى  تلك الصورة التي أمضيت حياتي المهنية في توثيقها.

تذكرت كيف أني في حروب سابقة عندما كنت ألتقط صوراُ لأطفال قد أصيبوا أو قتلوا، كنت أخفض الكاميرا وأفحص وجوههم لكي أتأكد أنهم ليسوا أطفالي.

بعد انتهاء الحرب، سألني مخرجون  كانوا يعدّون فيلمًا عن الصحفيين في غزة ما هي الأشياء التي سآخذها معي إذا علمت أن بيتي على وشك أن يتعرض للقصف. ففي بعض الأحيان، تحذّر إسرائيل السكان لكي يغادروا منازلهم قبل بدء الغارة الجوية. في مثل هذا الحالات الفوضوية والجنونية، قد يأخذ الناس معهم الذهب أو المال أو المستندات القانونية.

أنا شخصيّاً لن آخذ أيًا من هذه الأشياء.

سآخذ الوعاء الأزرق والسترة البلاستيكية - فهما يمثلان جرأتي وجسارتي في السعي لهذه المهنة، وهذه أمور قيمتها بالنسبة لي هي أكثر من الذهب.
 

** ملاحظة المحرر: توفير معدات الحماية الشخصية ليست من الخدمات الأساسية لشبكة ماري كولفن للصحفيات؛ كان هذا وضعًا استثنائيًا أرادت فيه إحدى المتبرعات دعم سمر بهذه الطريقة.