في مايو أيار عام 2021، اعتقلت السلطات الجزائرية الصحفية كنزة خاطو، مقدمة البرامج في إذاعة "إم" المستقلة والعضوة في شبكة ماري كولفن للصحفيات، أثناء تغطيتها للحراك الشعبي الذي كان قد بدأ قبل عامين للمطالبة بالإصلاحات السياسية في البلاد. مكثت كنزة أربعة أيام في المعتقل ووجهت إليها عدة تهم، من بينها تهمة المساس بالوحدة الوطنية والتي قد تصل عقوبتها إلى السجن عشرة أعوام. كانت فترة حالكة لكنزة. أرادت أن تستقيل من الإذاعة، لكن المحررين أقنعوها بالبقاء. عضويتها في شبكة ماري كولفن للصحفيات فيما بعد مدّتها بالمزيد من الدعم إذ تقول إنها لم تعد تخشى الكتابة عن الوضع السياسي في الجزائر. تمت تبرئة كنزة من كافة التهم في الاستئناف في شهر ديسمبر كانون الثاني 2021.
حدثينا بداية عن سيرتك المهنية والظروف التي كنتِ تعملين فيها قبل مايو أيار 2021
بدأت مشواري المهني عام 2014 مع صحيفة محلية، ثم انتقلت عام 2017 إلى الإعلام الإلكتروني مع مواقع عديد. ومع بداية الحراك الشعبي في الجزائر انتقلت إلى راديو "إم" وأعمل معهم إلى الآن كصحفية ومقدمة برامج وأخبار.
راديو "إم" محطة مستقلة وتقف إلى صف الحراك، على عكس وسائل الإعلام الأخرى التي تعدّ بوقا للسلطة. "إذاعة إم" تزعج السلطة لأنها تستضيف باستمرار شخصيات معارضة وتتحدث عن الحراك بصفة موضوعية. مالك المحطة، إحسان القاضي، متابع قضائيا أيضا بسبب شكوى تقدم بها وزير الاتصال السابق.
في السنتين الأخيرتين أصبحنا نعاني من تضييق غير مسبوق إذ تم إيداع الكثير من الصحفيين في السجن
كيف تغيّر وضع الحريات في الجزائر أثناء الحراك، خاصة فيما يتعلق بحرية الصحافة؟
الصحافة في الجزائر كانت دائما تقف مع الأقوى. مع أن الجزائر شهدت تعددية حزبية وإعلامية في أواخر الثمانينيات إلا أن الصحف المستقلة كانت دائما تدعم الطرف المسيطر. مثلا، عندما كان الجهاز الأمني في أوج قوته كانت وسائل الإعلام تقف في صفه. وفي فترة تالية كانت الصحافة تدعم الرئيس الجزائري الراحل عبدالعزيز بوتفليقة. ثم عندما ظهور الأوليجارشية المالية من رجال الأعمال انحازت الصحافة إلى صفهم.
عندما بدأ الحراك الشعبي في فبراير شباط 2019، كانت هناك حرية أكبر، وتحديدا في البداية لأن الأمور كانت ضبابية في المشهد السياسي. ولكن سرعان ما أخذ الجيش زمام الأمور فعادت الصحافة لتنحاز إلى صف السلطة. وفي السنتين الأخيرتين أصبحنا نعاني من تضييق غير مسبوق إذ تم إيداع الكثير من الصحفيين في السجن، كما أغلقت مواقع وصحف وتم إيداع مدرائها في السجن. ولا يقتصر الأمر فقط على أسلوب وسائل الإعلام في تغطية الحراك، فقد لاحقت السلطات إحدى الصحف لمجرد أنها انتقدت سياسة الدولة في التعامل مع جائحة كورونا.
وهل تم استهدافكِ في السابق، قبل اعتقالكِ في مايو أيار 2021؟
كانت هناك حملات بلطجة إلكترونية (أو من نسميهم الذباب الإلكتروني) على وسائل التواصل الاجتماعي لتخوين صحفيين والطعن في شرفهم، ومن بينهم أنا. في إحدى المرات تعرضت للضرب من قبل مصادر مجهولة بينما كنت أغطي تظاهرة ولم يحقق الأمن في الواقعة. وعشية الانتخابات الرئاسية يوم 11 ديسمبر كانون الأول 2019 كنت أغطي مظاهرة مع زملاء عندما انهال رجال الأمن عليّ ضربا وشتموني دون أي سبب.
إلى الآن لا أزال أتعرض للبلطجة الإلكترونية، إما بسبب عملي الصحفي أو نشاطي في مجال حقوق الإنسان والمرأة. يتهمونني بأنني أعمل لصالح أجندة خارجية تريد زعزعة الاستقرار، و يدعون أنني أتبع "حزب فرنسا" أي فرنسا التي استعمرت الجزائر، وهذا أمر يزعجني ويؤلمني كثيرا. وصل الأمر إلى حد أن أحدا نشر صورة مفبركة لي، تم وضع صورتي إلى حانب رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلي، الموساد، مدعيا أنني أعمل لصالحهم.
لا أزال أتعرض للبلطجة الإلكترونية. يتهمونني بأنني أعمل لصالح أجندة خارجية تريد زعزعة الاستقرار، و يدعون أنني أتبع "حزب فرنسا"
ما الذي حدث يوم الجمعة 14 مايو ايار 2021
قبيل ذلك التاريخ شهدنا تضييقا شديدا على الحراك إذ منعت المسيرات يوم الجمعة دون ترخيص من قوات الأمن. في ذلك اليوم، نزلت إلى الميدان لأرى إن كانت هناك مسيرات، وكانت الأجواء مشحونة جدا. كان رجال الأمن يعتقلون الناس بالجملة، وبينما كنت أصور على هاتفي الخلوي جاءت شرطية بزي مدني وطلبت أن أسلمها الهاتف، ولكنني رفضت ذلك. وفجأة أتت مجموعة كبيرة من رجال الأمن من الخلف واعتقلوني، حتى أنني لم أتمكن من رؤية من كان يقتادني.
اقتادوني إلى مركز الشرطة مع زملاء آخرين، وقيل لي إنه سوف يتم الإفراج عني بعد ساعات. ولكن ذلك لم يحدث. عرفت فيما أنهم أطلقوا سراح بقية الصحفيين بينما مكثت في المعتقل لوحدي لأربعة. لم يحققوا معي في تلك الفترة ولم يوضحوا أسباب اعتقالي. طلبوا مني مرة واحدة أن أفتح هاتفي ليعرفوا محتواه ولكنني رفضت. ومع أنهم رفضوا السماح لأسرتي بزيارتي، إلا أنهم وافقوا أخيرا بسبب حملة التضامن الكبيرة التي نظمها الصحفيون من أجلي.
الظروف التي عشتها كانت قاسية للغاية وإلى الآن لا أزال أعيش حالة صدمة كلما أتذكرها. لقد سببت لي ضررا معنويا كبيرا.
عندما تمت إحالتي أخيرا إلى وكيل الجمهورية (النيابة العامة)، سُئلت فقط عن بعض المناشير التي كنت قد وضعتها على وسائل التواصل الاجتماعي على الرغم من أنني اعتقلت بينما كنت أقوم بعملي الصحفي في الميدان. ثم وُجهت إليّ أربعة تهم: التحريض على التجمهر غير المسلح، المساس بالوحدة الوطنية، منشورات من شأنها المساس بالمصلحة الوطنية، وإهانة هيئة نظامية. هذه التهم كلها بموجب قانون العقوبات، على الرغم من أنه كان يجب أن تتم محاكمتي وفقا لقانون الصحافة الجزائري.
بعدها بأسبوع، تمت محاكمتي في جلسة واحدة فقط، وأدانني القاضي بتهمة التجمهر غير المسلح والتحريض على التجمهر غير المسلح وتوزيع منشورات من شأنها الإساءة بالمصلحة الوطنية. وحكم عليّ بالسجن لثلاثة أشهر موقوفة النفاذ وغرامة مالية بقيمة مئتي ألف دينار جزائري (ألف وأربعمئة دولار أمريكي).
كيف كان شعورك حيال الحكم؟
شعرت بالظلم وكان الضرر المعنوي كبيرا جدا، ليس فقط بسبب الحكم بل بسبب ظروف الاعتقال أيضا، لذا شعرت أنني غير قادرة على الاستمرار في عملي وقدمت استقالتي، ولكن رئاسة التحرير رفضت قبول الاستقالة.
لا أنكر أن ما حدث جعلني أخاف من الوضع العام في الجزائر وكدت أتخلى عن المهنة التي أعشقها خوفا من أن تتم ملاحقتي قضائيا من جديد وأن أعود إلى ذلك المكان المظلم في المعتقل، ولكن المدراء في "إذاعة إم" وقفوا إلى جانبي كما نظم زملاء حملة تضامن كبيرة معي. وبفضلهم استعدت ثقتي بنفسي.
استأنفت الحكم، وكذلك النيابة العامة التي أرادت أن تتم إدانتي بكل التهم. وفي ديسمبر كانون الأول 2021 ربحت القضية في جلسة لم تتجاوز عشرة دقائق، وتمت تبرئتي. إلى الآن لا أعرف ما هي الأدلة التي كان يستند إليها الادعاء، فملفهم كان فارغا إلا من بعض المناشير التي نشرتها على فيسبوك.
الظروف التي عشتها كانت قاسية للغاية وإلى الآن لا أزال أعيش حالة صدمة كلما أتذكرها
انضممتِ إلى شبكة ماري كولفن للصحفيات في صيف 2021، أي قبل جلسة الاستئناف ببضعة أشهر. وقلتِ إنك بفضل هذه العضوية لم تعودي تخشين الكتابة عن الوضع السياسي، فكيف ذلك؟
عندما انضممت إلى الشبكة ورأيت أسماء العضويات الأخريات من صحفيات عربيات يواجهن نفس القمع والتضييق أدركت أنني لست الوحيدة التي تواجه هذه الضغوطات. منذ انضمامي إلى الشبكة تلقيت نصائح كثيرة بفضل المرشدات، وأنا الآن متيقنة أنه إذا واجهتني مشكلة أخرى فهناك باب يمكنني أن أطرقه وهو شبكة ماري كولفن للصحفيات. الدعم الذي تقدمه لنا الشبكة، سواء عبر العضوات أو المرشدات أو المختصات، ساهم في تعزيز ثقتي بنفسي وهذا الدعم ضروري لأي صحفية تتعرض لمضايقات مماثلة في أي بلد عربي.
هل تغير أي شيء في حياتك وعملك بعد المحاكمة؟
أستطيع القول أنني عدت إلى العمل كسابق عهدي، ولكنني صرت معروفة أكثر لدى الجمهور بسبب الاعتقال، ولهذا أشعر بمسئولية أكبر في إيصال المعلومة ونشر الأخبار بنزاهة.
تصلني يوميا رسائل تأييد، وأذكر أنه بعد إطلاق سراحي بقليل أتى أحد المستمعين إلى مبنى الإذاعة حاملا قالب كيك احتفالا بعودتي. وهناك أيضا مستمع خارج الجزائر أرسل رسالة تأييد وليشجعني على الاستمرار في إيصال كلمة الشعب للسلطة. وكثيرا ما يتعرف علي الناس وأنا أمشي في الشارع ويشجعونني على الاستمرار في العمل.
هل تعلمتِ شيئا من هذه التجربة؟ وما نصيحتك لأي صحفية تشعر بالخوف الآن بسبب الضغوطات التي تتعرض لها؟
لا أعتقد أن هناك دروسا من هذه التجربة، ولكنها زادتني عزما وإصرارا على مواصلة مهننتي كصحفية رغم كل شيء. وأقول لكل الصحفيات إن الخوف هو شعور طبيعي ولكن يجب أن تكون لدينا الشجاعة وأن نتحمل المسؤولية. وطالما أننا نعمل بشفافية ونزاهة فإن التاريخ سينصفنا.