كرست أمل حباني حياتها للإصلاح في السودان منذ أن أصبحت صحفية في عام 2008، وساعدت في إنشاء منظمات مثل شبكة الصحفيين السودانيين ومبادرة "لا لاضطهاد المرأة". ساهمت كصحفية مستقلة في كتابتها على نطاق واسع عن فساد الحكومة وانتهاكات حقوق الإنسان في صحيفة التغيير السودانية المستقلة. اعتقلتها السلطات السودانية خمس عشرة مرة على الأقل، ومع ذلك قاومت أمل فكرة الرحيل عن بلادها إلى عام 2018 عندما ألقي القبض عليها أثناء تغطيتها للمظاهرات الشعبية احتجاجا على غلاء المعيشة. أمضت أمل 34 يوما في السجن وتعرضت خلالها للتعذيب، وفي هذه المرة أدركت أن البقاء في البلاد لم يعد خيارا ممكنا. هي الآن تعيش في ولاية أوتاوا في كندا مع أطفالها الثلاثة. ****
ما الذي دفعكِ لمغادرة السودان عام 2018؟
بعد أن تم إطلاق سراحي، عانيتُ من مشاكل صحية كثيرة بسبب للتعذيب، واكتشفت أيضا أنني حامل، فبدأت أفكر جديا في تبعات البقاء في السودان على أبنائي. فالاعتقال الأخير كان الأصعب لأن السلطات أخذت عناوين المدارس التي يذهب إليها ابناي الاثنين، وهددوا باستهدافهم بشكل مباشر. أكبرهما، عبد العظيم، كان في سن المراهقة، والأصغر، حافظ، كان عمره اثني عشر عاما، وشعرت بخوف شديد عليهم. أدركت عندها أن المواجهة مع السلطات باتت أصعب وأن تبعاتها على أسرتي ستكون أسوأ. لكن قرار الهجرة كان صعبا جدا بالنسبة لي.
في تلك الفترة، كنت قد حصلت على منحة من منظمة مراسلون بلا حدود لإقامة قصيرة في برلين تستغرق ثلاثة أشهر. وفي نفس الوقت، كنت قد حصلت على جائزة من لجنة حماية الصحفيين وكان من المفترض أن أسافر إلى نيويورك لاستلامها. كنت متخوّفة من السفر عبر مطار الخرطوم لأن السلطات كانت قد منعتني في السابق من السفر فقمت بالتحضيرات للسفر بمنتهى السرية ولم يكن أحد يعرف عن خطة السفر سوى أسرتي الصغيرة.
كنت أشعر بخوف شديد عند خروجي إلى الشارع وكأنني لا أفهم ما يحصل لي.
عندما وصلت إلى ألمانيا، لم أشعر أنها البلد الأنسب للاستقرار وشعرت أنه غير مرحب بي هناك. وفي نفس الوقت لم أرغب في استغلال زيارتي المرتقبة إلى نيويورك لطلب اللجوء هناك لأنني كنت أخشى أن يؤثر ذلك على فرص صحفيين سودانيين آخرين في استلام الجائزة في المستقبل.
في تلك الفترة كان رئيس الوزراء الكندي، جستن ترود، يرحب باللاجئين، مقارنة بالرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب الذي أراد إغلاق باب الهجرة، فقررت الذهاب إلى كندا بعد استلام جائزتي في نيويورك بأسبوع، وقدمت طلب اللجوء. أنا الآن بانتظار الحصول على الإقامة الدائمة، وعندها سيصبح بإمكاني إحضار زوجي الذي لا يزال في السودان.
كيف تأقلمت مع حياتك الجديدة في كندا؟
لا يمكنني أن أصف صعوبة تلك الفترة، شعرت وكأن أحدا انتزع قلبي وأحشائي عندما غادرت السودان. فالسودان بالنسبة لي هو قضية عمر، ولما وجدت نفسي في كندا في منتصف فصل الشتاء والثلج الغزير، أصبت بصدمة.
في البداية أقمنا في مركز (يسمونه فندق) للاجئين حوالي خمسة أشهر، ووضعت طفلتي في غرفتي هناك. وبالرغم من العناية الفائقة التي تلقيتها إلا أنني كنت أشعر وكأن عقلي معطل. كنت أشعر بخوف شديد عند خروجي إلى الشارع وكأنني لا أفهم ما يحصل لي. فصرت أمضي فترات أطول داخل غرفتي، وكان على ابني الأكبر الخروج لشراء الحاجيات الأساسية. أسوأ شيء بالنسبة لي كان مشاهدة أخبار الثورة في السودان التي اندلعت نهاية عام 2018 والتي أحاطت بالرئيس السابق عمر البشير. فلقد أمضيت أكثر من عشرة أعوام في الشوارع في السودان أعمل وأحلم بالثورة والتغيير، وعندما غادرت البلاد كنت على وشك أن أفقد الأمل في حدوث ذلك، وإذا بالثورة تندلع وأنا بعيدة.
شعرت بالذنب، وفكّرت لوهلة بالعودة إلى السودان، لكنني أدركت أنه لا توجد وسيلة لذلك، فلقد قطعت مشوار اللجوء ولا مجال للرجوع الآن خاصة وأنني كنت لا أزال أخاف على أولادي لأن الوضع الأمني ازداد سوءا وكنت أرى فتيانا في عمرهم يموتون في الشارع.
كندا بلد جميل وصادق في تعامله مع قضايا اللاجئين. كنت محاطة منذ البداية بعدد كبير من العاملات الاجتماعيات والمنظمات التي دعمتني من ناحية نفسية وعملية. كانت هناك موظفة تأتي كل أسبوعين للاطمئنان علي وعلى طفلتي. هناك حميمية في التعامل وحاولوا أن يخففوا من شعور الألم والغربة قدر الإمكان.
أخطط للحصول على دبلوم في الصحافة لكي أتمكن العودة للمهنة.
ولكن نحن الصحفيون كالأسماك في البحر، فنحن مرتبطون بما يحدث في بلادنا ونحفظ الخارطة الجغرافية والاجتماعية والإثنية هناك، فعندما نجد أنفسنا في بلد غريب لانعرف عنه الكثير نشعر بالضياع. في السودان، كنت صحفية معروفة ومؤثرة، أما الآن فلا بد أن أبدأ من الصفر. أنا الآن آخذ دورة متقدمة في اللغة الإنجليزية، وأخطط للحصول على دبلوم في الصحافة لكي أتمكن العودة للمهنة. وأتدرب الآن لأصبح مساعِدة للأمهات والأطفال حديثي الولادة لكي أتمكن من العمل والإنفاق على أسرتي ريثما أجد طريقة للعودة إلى الصحافة.
ما مدى صعوبة مزاولة الصحافة من كندا؟ أليس بإمكانك العمل على تغطية وتحليل التطورات في السودان بحكم خبرتك وشبكة اتصالاتك؟
عندما وصلت لكندا حاولت العمل مع تلفزيون موجّه للجالية العربية في كندا ولكن طريقة العمل معهم لم تكن مريحة ولديهم محاذير تحريرية أكثر مما كنت معتادة عليه في السودان! لم يرغب مدير المحطة في تغطية أحداث الثورة السودانية فتوقفت عن العمل معهم وبعدها أدركت أنه بات عليّ تأهيل نفسي من جديد بمستوى العمل المطلوب في مؤسسات كندية.
أرى أن الكثير من الصحفيات والصحفيين في المهجر يفضلون الارتباط بوسائل إعلام عربية لأن كسر الحواجز هنا لا يزال صعبا ولكن لا أريد أن أكون محصورة في هذا النطاق. بالفعل لا أزال مرتبطة بقضايا السودان وتحديدا قضايا المرأة والمواطنة، هذا سيكون دائما تخصصي، ولكنني أريد أن أعمل مع مؤسسات محلية هنا أيضا. الحواجز كثيرة، فهناك اللغة وهناك أيضا التكنولوجيا ولكن اكتساب هذه المهارات ليس مستحيلا.
من يتابع منشوراتك على وسائل التواصل الاجتماعي يشعر وكأنك لم تغادري السودان فأنت تتابعين كل شيء هناك أولا بأول وتعلقين على الشؤون السياسية والاجتماعية باستمرار. فكيف ترين الوضع الآن، خاصة مع الانقلاب الأخير؟
مكاني هو السودان، وسأعود إليه يوما ما، وسأكون جزءا من مشروع التغيير.
الانقلاب هو ردة وانتكاسة محبطة ومؤسفة .ويجب على كل المجتمع الدولي أن يضغط بحزم وقوة على قائد الجيش عبدالفتاح البرهان ومليشيات الدعم السريع ومليشيات الحركات المسلحة من أجل تسليم السلطة فورا للمدنيين .
انجرار السودان نحو الفوضى التي سيحدثها حكم هذا التحالف لن يكون وبالا على السودان وحده بل على كل المنطقة والاقليم والعالم .لأن السودان بلد غني بثرواته وكبير ومن السهل جدا أن يكون حاضنة للارهاب العالمي وتجارة السلاح وتجارة البشر كما كان يحدث في سنوات حكم الانقاذ التي كانت الحاضنة لارهابي داعش وبورك حرام والقاعدة وطالبان وكانت ممرا لتجارة البشر والمخدرات تحت ادارة الاجهزة الحكومية والأمنية .
من أين يأتي الأمل، وبالرغم من كل ما يحدث؟
أنا أرى الأمل بسبب التغيير الذي بدأ يحدث فعلا، ففي السابق عندما كنا نخرج إلى الشارع لم يكن عدد النساء في الجماهير يتجاوز أربعة أو خمسة نساء وكان الناس يضحكون علينا و يعتبروننا مجنونات. عندما كنت أكتب وأنتقد قانون النظام العام الذي كان يحدّ من حرية النساء وأدعو لإلغائه كان الناس يعتبرون الفكرة مستحيلة الحدوث. ولكن قانون النظام العام كان أول قانون يتم إلغاؤه بعد الثورة. ما يحدث الآن هو نتيجة تراكمية لعملنا على مدى السنين، والضربة التي فتتت الحجر لم تكن الضربة الوحيدة وإنما الضربة الأخيرة. هناك الآن وعي نسوي خاصة لدى الجيل الجديد من النساء فهن أكثر شجاعة ويطالبن بحرياتهن الشخصية بدون خوف. هناك مد ثوري، ولدينا فرصة كبيرة للانتصار.
كيف أثرت تجربة المنفى على أبنائك، وكيف يبدو لك الفرق بين الأولاد الذين عاشوا طفولتهم في السودان وابنتك التي ولدت في كندا؟
قرار الخروج من السودان كان من أجل سلامة الأولاد في المقام الأول. هم سعيدون في كندا ولا أخفي أنني أشعر أحيانا بالحزن والغضب لأني أشعر أنهم لا يريدون العودة للسودان، ولكنني في نفس الوقت أفهمهم لأنهم يتمتعون بالحرية والاحترام هنا. أما ابنتي فلا أخاف عليها هنا لأن السودان ليس بلدا آمنا للنساء ولا للأطفال، فالمجتمع لا يكترث بالأطفال وكثيرا ما يتم التعامل معهم دون وعي ويعطي الرخصة للكبار لضربهم وإيذائهم بحجة التربية. ابنتي محظوظة أنها ولدت في بلد يضع الطفل في صلب أولوياته.
هل تتوقعين أن تعودي إلى السودان يوما ما؟
أنا لا أزال أعتبر أن وجودي في كندا هو أمر مؤقت، فعقلي وقلبي لا يزالان في السودان إلى درجة أنني اضطررت في فترة ما إلى إغلاق الفيسبوك لأنني كنت أتابع الأخبار إلى حد لا يحتمل. مكاني هو السودان، وسأعود إليه يوما ما، وسأكون جزءا من مشروع التغيير.
الصور:
*الصورة الرئيسية: أمل هباني أثناء إقامتها القصيرة في برلين. (المصدر: مراسلون بلا حدود)
** أمل هباني مع طفلتها في أوتوا (الصورة بلطف من أمل هباني)
*** أوقات أكثر بهجة: أمل هباني مع زوجها وأولادها في السودان، 2014 (الصورة بلطف من أمل هباني)