بينما يُسدل الستار على عام 2020، تسترجع عضوتان من شبكة ماري كولفن للصحفيات ذكرياتهما من سنةٍ أثرت عليهما بشدة.
حفصة عوبل
حفصة صحفية يمنية حرة. هي مقيمة حاليا في القاهرة وتكتب من هناك عن آثار الحرب وجائحة كورونا على الحياة اليومية لليمنيين.
عندما غادرت اليمن في بداية عام 2020، تاركة أهلي وأصدقائي، لم أكن أتخيل أنني سأصبح عالقة في منتصف رحلتي بسبب الوباء.
بعد عدة محاولات فاشلة أدركت أن أمامي خيارين: إما البقاء في القاهرة دون عمل، أو العودة إلى اليمن مع العلم بأنني قد لا أحصل على عمل هناك أيضا
في 27 يناير كانون الثاني، ذهبت إلى مطار عدن متوجهة إلى القاهرة، بعد رحلة عبر البر استغرقت 15 ساعة. عندما توجهت لختم تأشيرة الخروج، طلب مني موظفٌ بأن آتي إلى أحد المكاتب معه، وبدأ بالتحقيق معي. أراد أن يعرف لماذا أريد السفر، ثم أخذ يتهمني بالعمل مع الحوثيين تارة ومع حزب الإصلاح تارة أخرى. أمرني بأن أفتح رسائل الواتساب ليرى مع من أتواصل، وعندما قرأ اسم أحد الصحفيين المعروفين على قائمة رسائلي، قام بإرسال رسالة صوتية لهذا الصحفي عبر هاتفي ليتأكد من صحة الاسم. وعندما رد عليه ذلك الصحفي، أدرك مدير الأمن أن هويته حقيقية فوافق على السماح لي بمغادرة البلاد.
عندما وصلت أخيرا إلى القاهرة كنت أنوي السفر إلى دولة ثالثة للالتحاق بمؤسسة إعلامية يمنية خاصة هناك. ولكنني لم أحصل على تأشيرة ولم تتمكن تلك المؤسسة من مساعدتي. بعد عدة محاولات فاشلة أدركت أن أمامي خيارين: إما البقاء في القاهرة دون عمل، أو العودة إلى اليمن مع العلم بأنني قد لا أحصل على عمل هناك أيضا.
لم أكن أنا من اخترت البقاء في القاهرة، وإنما جائحة كورونا هي من اختارت لي، ففي منتصف مارس آذار أُغلقت المطارات. وبدأت نقودي تنفذ.
الحياة مع الكورونا
عندما طالت فترة الإغلاق لم يعد بإمكاني دفع الإيجار، فتقدمت بطلب لمنحة طارئة من إحدى المؤسسات التي تدعم الصحفيين، ووافقوا على مساعدتي ما جعلني أشعر بارتياح كبير. لكنني كنت أشعر أيضا بالملل والقلق من استمرار الجائحة لفترة أطول وأنا لا أعمل ولا أستطيع السفر. اضطررت إلى تقنين استخدامي للإنترنت بشكل كبير لأن سعره كان باهظا بالنسبة لي، وهذا أثر على قدرتي على حضور دورات تدريبية أو التواصل مع أسرتي وأصدقائي. لم أكن أخرج سوى لساعة واحدة كل خمسة أيام. ساعة واحدة ليست كافية ولكنها كانت ضرورية حتى لا أستمر بالتفكير.
هناك حكمة تقول "اصبر إذا لم يكن لديك خيار آخر"... أتذكرها كل يوم
في تلك الفترة، كانت شبكة ماري كولفن للصحفيات قد عرفتني على إحدى المرشدات، رنا الصباغ، ضمن برنامج الإرشاد المهني لديهم والذي يهدف إلى التشبيك ما بين الصحفيات العضوات والمرشدات لدعمهن في تطوير مهاراتهن وتحسين فرصهن في المهنة. وبفضل جهود رنا الصباغ، تمكنت من الحصول على عمل مع موقع المشاهد نت، وهو موقع يمني مستقل تم إطلاقه عام 2016. كتبت لهن مقالات عن صحفيات يمنيات رفضن التخلي عن المهنة بالرغم من المخاطر، وعن مأساة القطاع الصحي في اليمن الذي لا يقدر على التعامل مع الوباء، وعن فنانة يمنية حولت مشاهد الدمار في اليمن إلى لوحات أمل، وغيرها. لم يكن العمل أثناء الحجر سهلا أبدا، ولهذا فإنني فخورة جدا بهذه التقارير.
لا يزال وضعي في القاهرة غير مستقر، فأنا بحاجة إلى مصادر إضافية للدخل لأساعد أسرتي في اليمن على سداد إيجارهم، ومع ذلك فعندما أسترجع ما مررت به عام 2020 فلا يمكنني القول بأنه أسوأ عام بالنسبة لي. فلقد مر عليّ ما هو أسوأ منه عندما كنت في اليمن.
هناك حكمة تقول "اصبر إذا لم يكن لديك خيار آخر"... أتذكرها كل يوم.
هويدة سعد
هويدة هي مراسلة لصحيفة النيويورك تايمز في بيروت. هي أيضا واحدة من 19 صحفية نُشرت نصوصهن في كتاب Our Women on The Ground عن تجاربهن في تغطية الصراعات في بلدانهن
من شرفة منزلي المطلة على مرفأ بيروت من الناحية الشرقية للمدينة، يبدو البحر صافيا أزرق وكأن العاصفة النووية التي ضربتنا في الرابع من آب أغسطس الماضي لم تكن إلا حادثا عابرا.
كل الصور تتشابه بالنسبة لأمي مع فرق واحد فقط: أصوات القذائف اختفت ولم نعد ننزل إلى الملاجيء احتماءً من القصف
مع قهوتها الصباحية، تجلس أمي على الشرفة تراقب وتتذكر ذلك اليوم المشؤوم، ثم تحاول إبعاد ذكراه بمحاولة قراءة ما يخبئه فنجانها في بلد يزداد مستقبله غموضا كل يوم. عاشت أمي الحرب الأهلية منذ اندلاعها عام 75، وتستذكر تفاصيلها المؤلمة بين الحين والآخر. تلك الحرب استمرت زهاء عشرين عاما، وانتهت نظريا عام 90، تلاها سنوات من السلام المزيّف، ظن خلالها اللبنانيون أنهم يتمتعون ببحبوحة اقتصادية، لكنهم يعيشون اليوم حالة من الإفلاس المادي والمعنوي.
لا يكشف فنجان أمي عن الكثير ولا يجيب عن أسئلتها: فلماذا حدث هذا كله في الرابع من آب أغسطس؟ تمنت لو أن فنجانها حذرها من ذلك النهار المشوؤم، ولو أنه كشف لها عن سحب الدخان التي كادت أن تأخذ معها كل شي، بما فيه مطبخها الذي بكت عليه كثيرا لما رأته شبه مدمر.
منذ ذلك اليوم، تغيرت صباحات بيروت. شوارع بيروت التي هدأت منذ تفشي فيروس كورونا في مارس آذار الماضي، أصبحت متوترة بعد الانفجار. مع تفاقم الأزمة الاقتصادية علقت أموال اللبنانيين وطالت طوابير الانتظار أمام البنوك. سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية يتغير كل لحظة، ومظاهرات هنا وهناك، يخرج اللبنانيون إلى الشوارع فجأة، ثم يعودون إلى بيوتهم ينتظرون التغيير.
تعود أمي لقراءة فنجانها وإذا بجارتها تصيح مبتهجة لأنها حصلت أخيرا على صندوق إعاشة بعد ساعات من الانتظار
يخيّم الصمت أيضا على الحي الذي تقطن فيه أمي. من شرفة منزلها ترى الأشياء كأنها تنظر إلى شاشة تعيد شريط حياتها: لبنان الجميل قبل عام 75، مرورا بالحرب الأهلية، ووصولا إلى الرابع من أغسطس آب 2020.
كل الصور تتشابه بالنسبة لأمي مع فرق واحد فقط: أصوات القذائف اختفت ولم نعد ننزل إلى الملاجيء احتماءً من القصف. هناك مشهدٌ واحدٌ تتذكره أمي جيدا: طوابير الأهالي وهم ينتظرون المساعدات الآتية من الخارج: من سلل غذائية إلى معقمات وأدوات تنظيف، و بعض المساعدات المالية البسيطة. ظنت أمي أن ذلك المشهد لن يتكرر، لكنه يعود اليوم وبقوة. الكل يسأل متى ستصل مركبات الجمعيات الخيرية أو الجيش لتوزّع المساعدات الغذائية والمادية.
أمي في الخامسة والسبعين من العمر، لكن ذاكرتها جيدة. عندما تتذكر أحداث السبت الأسود (6 ديسمبر كانون الأول 1975)، عندما قُتل مئات اللبنانين والفلسطينيين في مرفأ بيروت لانتماءاتهم الطائفية المدونة على بطاقات الهوية، تقول: "يا الله! كنا بالسبت الأسود، وصرنا بالثلاثاء والأربعاء والخميس السود". تعود أمي لقراءة فنجانها وإذا بجارتها تصيح مبتهجة لأنها حصلت أخيرا على صندوق إعاشة بعد ساعات من الانتظار، ويحتوي على معقّم Detol الأصلي. تتأمل أمي جارتها وهي تمشي بخطى سريعة كأنها ربحت ورقة يناصيب.
الصور:
1. نزهة ليلية في شوارع القاهرة خلال فترة الإغلاق. تصوير حفصة عوبل
2. منظر من شرفة في القاهرة خلال فترة الإغلاق. تصوير حفصة عوبل
3. والدة هويدة سعد وفنجان القهوة الصباحية. تصوير دالية خميسي