كغيرها من الصحفيين، فإن دفاتر رجاء عبدالرحيم مليئة بحكايات لم تتمكن من روايتها. الآن وبعد أن أنهت ثمانية أعوام من تغطية الحرب في سوريا، تتحدث مراسلة الوول ستريت جورنال، والمرشدة في شبكة ماري كولفن للصحفيات، عن شعورها بالمديونية تجاه أولئك الذين ائتمنوها على قصصهم المؤلمة

 

في غرفة كانت تعيش فيها أسرة سورية مكوّنة من ستة أشخاص، كانت الجدران عارية إلا من صورة وحيدة لطفلة بعينين زرقاوين كبيرتين وشعر مربوط بشرائط وردية.

بدت الصورة كأنها نصب تذكاري لريان، الطفلة ذات الثلاثة أعوام التي قتلها القناصة برصاصهم قبل أشهر من زيارتي. كانت العائلة تجلس في حافلة هربا من القصف. لكن رحلتهم تعثرت لأن تبادلا لإطلاق النار أرسل باولا من الرصاص وشظايا الزجاج إلى داخل الحافلة.

عندما زرت العائلة، كانت نجوى، أم ريان، تنتظر ولادة طفلها السادس. ولكنها كانت تقضي أيامها في الحداد على الطفلة التي لم تتمكن من حمايتها حتى وهي جالسة في حضنها في الباص. قالت لي: "تشعرين وكأنهم يستهدفون الأطفال ليحرقوا قلوب أهاليهم."

هذا الإحساس بالذنب يكمن وراءه شعور بالفشل، فحتى الحكايات التي تم نشرها لم تفضِ إلى أي تغيير في الصراع أو حتى تخفيف للمعاناة.

 

مضت ثمانية أعوام على هذا اللقاء ولم تفارقني لوعتها حتى الآن، وليس ذلك لأن ألمها يمثل ألم الكثير من الأهالي الذين دفنوا أطفالهم في هذه الحرب فحسب. فلقد ائتمنتني على حكايتها ولكنني خذلتها لأنني لم أكتب عنها. لا تزال كلماتها مخطوطة في دفتر مدوناتي، ككلمات العديد من الآخرين الذين لم تلقَ حكاياتهم حقها من الرواية.

هذا الإحساس بالذنب يكمن وراءه شعور بالفشل، فحتى الحكايات التي تم نشرها لم تفضِ إلى أي تغيير في الصراع أو حتى تخفيف للمعاناة

في وقت سابق من هذا العام، انتقلت من الكتابة عن الشأن السوري بعد ثمانية أعوام من تغطية الصراع هناك. لكن القصص التي لم أتمكن من روايتها لا تزال تطاردني. يدرك الصحفيون أنه لا يمكن كتابة كل شيء، لكن القصص غير المحكية تصبح بمثابة دين لم نتمكن من سداده.

 

 

لكن الحرب لا تقتصر على حكايات الفقدان. فهناك لحظات عبثية وكوميديا سوداء تتخلل ساحات الحرب بشكل مفاجيء، لكننا لا نكتب عنها أحيانا خشية من أن تظهر كقلة احترام. أو حكايات أولئك الذين ساعدونا في واحد من أخطر الدول بالنسبة للصحفيين، وذلك بتهريبنا من وإلى البلاد، واصطحابنا على طول الخطوط الأمامية واستضافتنا في بيوتهم.

كان الظلام حالكا في الشاحنة التي كنت أركبها على سفح جبل على الحدود اللبنانية-السورية، وأنا في طريقي لمغادرة دمشق بعد أسبوعين من العمل الصحفي السري. كنت بالكاد أرى المقاتل-المهرّب الجالس قبالتي حاملا بندقية من طرازAK-47. كان يتمتم سيلا محموما من الأدعية بعجلة لم أشهدها من قبل مع أي مقاتل آخر.

في العادة، كان المقاتلون ضد الحكومة يتصرفون دون وجل، حتى في أكثر المواقف خطورة. لم أكن أشاركهم هذا الشعور بعدم الاكتراث عند سماع أصوات القذائف أو الهرب من رصاص القناصة، ولكنني كنت أعتمد على سلوكهم الهادئ لكي أهديء من مخاوفي. 

أما الآن، فإن المقاتل القلق الجالس أمامي زاد من حدة توتري. إذا كان هو خائفا، فيجب أن أكون أنا مرعوبة.

لم أدرك أننا أصبحنا بأمان إلا عندما أشعل سيجارة قبل نهاية الرحلة بقليل، فتصرف كهذا كان في منتهى الخطورة قبل لحظات لأنه كان يمكن أن يلفت انتباه جنود الحكومة إلينا.

لا أتذكر بالضبط كلماته الأخيرة قبل أن نفترق على الجزء المقابل من الحدود، ولكنني أتذكر فحوى ما قاله: ناشدني أن أكتب عن ما شاهدته. ما لم يُقال هو أنه كان مستعدا للمجازفة بحياته لكي أقوم بذلك.

 

 

كالعديد من الصراعات، فلقد دخلت الحرب السورية في نمطٍ من التكرار القاسي، وباتت تغطيتها تبدو كحلقات من القصص المماثلة. وطالما أن وتيرة المآسي في هذا الصراع فاقت حجم الاهتمام الدولي المتضائل، فإن المزيد من القصص لا تتم روايتها.

ناشدني أن أكتب عن ما شاهدته. ما لم يُقال هو أنه كان مستعدا للمجازفة بحياته لكي أقوم بذلك.

في العام الماضي، التقيت بصحفية سورية  كانت قد هربت من سوريا إلى تركيا. روت لي تفاصيل رحلة الهروب مع زوجها وطفليها عام 2018 بمساعدة مهرّب من محافظة إدلب شمال غرب البلاد. عندما جلسنا للقائنا في مقهى في اسطنبول، كنت قد استمعت سلفا لحكايات كثيرة كهذه. لكن تفاصيل ما حدث معهم دفعني للبكاء.

هددهم المهرّب الذين كانوا قد دفعوا له آلاف الدولارات بإلغاء الرحلة عبر الحدود إذا كان أطفالهم مستيقظين. فأعطت طفلها ذي الستة أشهر دواءً للسعال لكي ينام، إلا أن مفعول الدواء تلاشى بعد ثلاثين دقيقة من بداية الرحلة التي كانت ستستغرق أربع ساعات. بدا وكأن الطفل استشعر أن أمرا ليس على ما يرام فلم يصدر أي صوت، بينما اتسعت عيناه من الخوف.

أما طفلها الآخر الذي كان يبلغ من العمر ثلاثة أعوام فكان على وشك البكاء طيلة الرحلة. توسلت له أمه: "ابني، أرجوك لا تبكي!" وهي تحاول أن تهديء من روعه.

بعدها بساعات، عندما وصلوا إلى الجانب التركي من الحدود، انفجر الطفل بالبكاء أخيرا وفاض منه مخزون الرعب، ولم يتوقف عن البكاء لساعات.

مر عام على هذه الرحلة ولا يزال الطفل يعاني من آثارها. كلما مشى في شوارع  اسطنبول المنحدرة استرجع ذكريات الرحلة، فيلتفت إلى أمه خائفا ويسأل: "ماما، هل تأخذينني إلى الجبال من جديد؟"

لقد كتبنا الكثير عن سفك الدماء والحزن في سوريا. ولكن هذه الحكاية تؤلم القلب بذات الدرجة: حكاية طفلين خانفان جدا من البكاء.

 

الصور: امرأة تسير في بقايا منزلها في الرقة بعد أن دمره مقاتلو داعش. مقاتل يبكي على صديقه الذي لقي حتفه في شوارع حلب القديمة، رجاء عبدالرحيم في القامشلي، تصوير أحمد ديب. الصور من رجاء عبد الرحيم.