في حزيران 2019، بثت إذاعة بي بي سي مسلسل "ما وراء الحدود"، من إعداد المخرجة زهرة مكاوي، وهي مرشدة في شبكة ماري كولفن للصحفيات. تسترجع زهرة رحلة السنوات الخمس التي أمضتها في تغطية أزمة اللاجئين السوريين ولم يكن ذلك سهلا، إذ كان عليها وعلى اللاجئين استرجاع ذكريات مؤلمة. ولكن فيما تتحول أنظار العالم بعيدا عن أزمتهم، فإن حكايات الأفراد وتجاربهم مع الألم والأمل لا تزال جديرة بالرواية.

 

لقد تغير الكثير منذ أن بدأت بتغطية أزمة اللاجئين عام 2013 ولم أشعر أنني تمكنت من عرض هذه التغيرات في عملي

بدأت العمل على تغطية أزمة اللاجئين السوريين عام 2013، فيما كان يفترض أن يكون تعاقدا لستة أشهر فقط كصحفية فيديو مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين. كان عليّ أن أوثّق أوضاع اللاجئين في المخيمات في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. ولكن عندما اتضح حجم الأزمة وبدأ الملايين بالتدفق عبر الحدود للدول المجاورة، طلبت مني المفوضية البقاء معهم لعام كامل في بيروت كقاعدة. لم أكن أدرك آنذاك أن أزمة اللاجئين السوريين ستستهلك أربعة أعوام من حياتي، وأنني سأتتبع رحلتهم في المنفى عبر العالم.

في ذلك الوقت، أتيحت لي الفرصة لإنتاج القصص على عدة أشكال، للمفوضية وأيضا لوسائل إعلامية أخرى كصحفية مستقلة. مع حلول عام 2018، كنت قد أنتجت مسلسلا وفيلما وثائقيا قصيرا، ومشروع واقع افتراضي لا يزال يُعرض حتى الآن، وساهمت أيضا في مشروع كتاب والذي اشتُريت حقوقه مؤخرا ليتم إنتاجه كفيلم سينمائي.

ومع أن هذه التجارب كانت مثرية، إلا أن التباين في أشكالها كان محبطا لي وكنت أتوق لفرصة لجمع كل هذه القصص معا. لقد تغير الكثير منذ أن بدأت بتغطية أزمة اللاجئين عام 2013 ولم أشعر أنني تمكنت من عرض هذه التغيرات في عملي. بعض الأسر الذين صوّرتهم في بداية الأزمة تغير وضعهم بشكل جذري وأردت أن أزورهم مجددا. تغيرت أيضا ردود الأفعال الدولية بشكل كبير جدا، واتضحت التبعات السياسية بشكل أكبر مع تصاعد المد الشعبوي المعادي للاجئين في أوروبا.

في ذلك الوقت، كنت أستمع أيضا للكثير من المدونات الصوتية (البودكاست)، وصرت أرغب بالعمل على إنتاج إذاعي جديد أيضا. في عام 2017، توجهت إلى محرر سابق مع الخدمة الدولية لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بنسخة أولى من مقترح لمشروع. وساعدني على مدى أسابيع، عبر الرسائل الإلكترونية والمكالمات الهاتفية، في إعادة صياغة الفكرة إلى برنامج وثائقي إذاعي، وقدم الإرشاد لي فيما يخلص عملية التكليف لإنتاج هذا المشروع. كان كريما للغاية في تقديم وقته، ونصائحه لا تقدر بثمن، خاصة لأنني لم أنتج مشروع راديو من قبل. وعندما شعر أن المقترح أصبح جاهزا، عرّفني على المحررين في بي بي سي، ودعوني بدورهم لتقديم المشروع شخصيا.

 

أبطال الرواية

استغرق الأمر خمسة أشهر قبل أن نتفق بشكل نهائي على المسلسل، من ناحية الأسلوب وعدد الحلقات والأسر التي ستظهر فيه. لم يكن من السهل أن أختار الأشخاص الذين سأتحدث معهم لأنني التقيت بالكثير من الشخصيات الملهمة خلال هذه الأعوام الخمسة. كلهم أصبحوا جزءا من حياتي، ولي معهم صداقات قيّمة. كنت أبذل جهدا كبيرا للبقاء على تواصل معهم. كان البعض منهم يختفون أحيانا، فيلتهمني القلق عليهم. كانت هواتفهم النقالة تتوقف عن العمل فجأة ودون سابق إنذار، فأمضي أشهرا في تتبع آثارهم. من حسن الحظ أنني طوّرت شبكة اتصالات واسعة في الجالية السورية في الشتات، وكنت أعثر عليهم في النهاية، وأشعر بارتياح شديد عندما أسمع أصواتهم من جديد وأطمئن إلى أحوالهم.

أرادت أسرة فتاة تدعى "شهد"، والتي كنت قد التقيتها عام 2013، أن تعرف إن كانت هذه المقابلة ستفيدهم بتحسين وضعهم المعيشي، والذي كان قد أصبح أقل استقرارا

 

عندما تواصلت مع الأسر في صيف عام 2018، لم يبادلني الجميع الحماسة لهذه الفكرة. بالنسبة للأسر التي كانت لا تزال عالقة في لبنان، فإن وضعهم كان قد ازداد سوءا وأصبحوا متشائمين من الطريقة التي كانت تقدمهم  بها وسائل الإعلام. أرادت أسرة فتاة تدعى "شهد"، والتي كنت قد التقيتها عام 2013، أن تعرف إن كانت هذه المقابلة ستفيدهم بتحسين وضعهم المعيشي، والذي كان قد أصبح أقل استقرارا. أما عائشة، وهي شابة تعيش في مخيم في وادي البقاع، فكانت تخشى من أن يتم ترحيلها قسرا إلى سوريا في أية لحظة. كان من الصعب عليها أن تتقبل وضعها خاصة لأن أغلب أفراد أسرتها أعيد توطينهم في كندا، وأرادت أن تعرف إذا كانت هذه المقابلة ستساعدها أيضا في الحصول على إعادة توطين في كندا.

لم يكن بإمكاني تقديم ضمانات بأن هذه المقابلات ستفضي إلى أي تغيير. ومع اقتراب موعد السفر، تحدثت مليا مع الأسرتين وشرحت لهم لماذا كان ضروريا للجمهور أن يستمعوا إليهم. ووافقوا أخيرا بسبب الثقة التي كنا قد بنيناها عبر السنين.

فوجئت أكثر من ردة الفعل الفاترة من "رافي"، وهو شاب سوري كان قد تمكن من الوصول إلى أوروبا. التقيت برافي في مدينة كاليه الفرنسية عام 2014، وبعدها بستة أشهر وصلتني منه رسالة بأنه وصل أخيرا إلى بريطانيا على متن حافلة. بقينا على تواصل على مدى عام أو اثنين، وكنت أتابع أخباره بينما كان يتنقل من مدينة إلى أخرى. في عام 2016، اكتشفت أنه يعيش في قرية صغيرة بالقرب من والدتي في مقاطعة شمالية من إنجلترا، فذهبت لزيارته. كان يحاول جاهدا أن يتأقلم ولم يكن قد حصل بعد على فرصة لتعلم الإنجليزية، وكان بحاجة إلى شهادة لغة ليكمل دراسته الجامعية.

عندما أخبرته أننا سنمضي قدما في إنتاج المسلسل، قال إنه لم يعد يريد إجراء المقابلة. لم يكن يرغب بالعودة لتذكر تجربته في سوريا، ولا رحلة الهجرة، ولم يكن يريد أن يرتبط بكلمة "لاجيء" بعد الآن. كان غاضبا من العنصرية الواضحة تجاه اللاجئين في الصحف الصفراء البريطانية، وأراد أن يعرف إذا كان هذا المسلسل سيحدث أي تغيير على الإطلاق. قال لي إنه تكن لديه الطاقة لخوض معركة التصدي للصورة النمطية السلبية عن اللاجئين. وافق رافي في النهاية على المشاركة وقال لي إنه قرر ذلك لأنه كان يثق بي كصحفية وصديقة. لكننا لم نتمكن من استخدام المقابلة في النسخة الأخيرة من الفيلم، واتصلت برافي لأشرح الأسباب وتفهّم هو ذلك. والآن يسعدني القول أن رافي سيتمكن أخيرا من إكمال دراسته الجامعية.

واجهت تحديات خاصة بي أيضا أثناء إعداد هذا المسلسل. فعندما أعطت "بي بي سي" الضوء الأخضر للمشروع، كان قد مضى عام كامل منذ أن توقفتُ عن تغطية أزمة اللاجئين السوريين. كنت بحاجة للابتعاد لبعض الوقت ومن الناحية العاطفية أيضا، خاصة بعد أن عملت لخمسة أعوام كشاهد عيان على هذا الكم الكبير من المعاناة. لذا عندما أدركت أنني سأبدأ العمل على مشروع قد يستغرق شهرين أو ثلاثة أشهر، حاولت أن أجهز نفسي عاطفيا وتوجهت إلى أصدقاء وزملاء لي للحصول على دعم. ولكن في خضم مشاعر اليأس والغضب والإحباط لمشاهدة الواقع القاسي الذي لا يزال يعاني منه الكثير من اللاجئين السوريين، كانت هناك أيضا لحظات سعادة حقيقية. أتذكر الدفء والكرم الذي قرّبني إلى هذه الأسر في المقام الأول. وأثناء جولاتي لزيارة الأسر التي استقرت في الغرب، أثلج صدري رؤية الجيل الأصغر منهم وهم يندمجون في بيئتهم الجديدة.

أثناء جولاتي لزيارة الأسر التي استقرت في الغرب، أثلج صدري رؤية الجيل الأصغر منهم وهم يندمجون في بيئتهم الجديدة

لا أزال أتابع أزمة اللاجئين السوريين، ولكن كمتلقية للأخبار لا كمنتجة. ومع أن اهتمام وسائل الإعلام والجمهور انخفض بشكل ملحوظ إلا أن الحكاية لم تنتهي. لا يزال هناك خمسة ملايين لاجيء في المنطقة، وستة ملايين سوري نازحِِ داخل البلاد. ولا يزال ملايين السوريين المشتتين عبر العالم يواجهون صعوبات لإعادة بناء حياتهم. وهذا هو التحدي الذي نحن أمامه، إذ علينا أن نستمر في تذكير العالم بهذه الأزمة من خلال عملنا.

عندما تم بث المسلسل، سمحت لنفسي أن أشعر بنوع من الإنجاز، لأنني واصلت السعي في هذا المشروع حتى النهاية. وإلى حد ما، وصلت إلى مرحلة من الارتياح لأنني شعرت أنه أصبح بإمكاني المضي قدما من الناحية العاطفية، مع العلم بأنني لا أزال على تواصل مع كل الأسر. لا يزال البعض منهم يسألونني لماذا لم يتغير وضعهم حتى الآن، وهذا النقاش ليس سهلا أبدا. ولكن بعد أسابيع من بث المسلسل وصلتني رسائل من مستمعين من مختلف أنحاء العالم، يعبرون فيها عن مدى تأثرهم بالمسلسل وعن رغبتهم بمعرفة المزيد. ربما هذا هو أكثر ما يمكننا أن نتمناه: أن يحدث تغيير، مهما كان صغيرا، في آراء الناس.

 

*الصورة: زهرة مكاوي، المرشدة في شبكة ماري كولفن للصحفيات، مع شهد التي لا تزال تعيش مع أسرتها في مخيم في لبنان