في عام 2017، رفعت حكومة حماس قضية على الصحفية هاجر حرب، في أعقاب تقرير عن الفساد في وزارة الصحة. وقد اعتبرت القضية سابقة بالغة الخطورة لأنها كانت المرة الأولى التي تدان فيها صحفية بسبب عملها. تستذكر هاجر هنا كيف تمكنت من كسب القضية عام 2019، وتقر بأخطائها أيضا.

 

في عام 2015، قررت إجراء تحقيق استقصائي عن الفساد في نظام تحويلات المرضى في قطاع غزة لتلقي العلاج في الخارج.

تقدمت بالفكرة إلى شبكة التلفزيون العربي بعد أن طالبني الكثيرون بالعمل على هذه القصة لأن شح الأدوية وضعف الخدمات الطبية في غزة يجعل السفر للعلاج حاجة ملحة للعديد من المرضى. وهناك دافع شخصي أيضا... فلقد أصيب شقيقي الأصغر بجراح أدت إلى تشوه وجهه. وعندما تقدمنا بطلب للسفر وتلقي العلاج في الخارج، لم نفلح في ذلك ولم نفهم السبب.

قررت أن ارتدي النقاب، وتظاهرت بأنني أريد تحويلا إلى الخارج، ليس بهدف العلاج وإنما لزيارة خطيبي، وقمت بتصوير مقابلاتي مع بعض  الأطراف المتورطة باستخدام كاميرا سرية.

الفرضية التي كانت نقطة البداية في التحقيق، والتي كان علي إثباتها، هي أن هناك أشخاصا فاسدين في القطاع الصحي، يتلقون الرشاوي لمنح الأذون لأفراد لا يستحقون السفر، وأن هذا يأتي على حساب المرضى الأشد حاجة للعلاج في الخارج. أردت أيضا الكشف عن ضعف الرقابة على أداء دائرة العلاج بالخارج والمشافي الحكومية، ووضع كل هذا ضمن الواقع السياسي الحساس في قطاع غزة، إذ أن حكومتي الضفة الغربية وقطاع غزة مسؤولتان عن هذه القضية.

قررت أن ارتدي النقاب، وتظاهرت بأنني أريد تحويلا إلى الخارج، ليس بهدف العلاج وإنما لزيارة خطيبي، وقمت بتصوير بعض المقابلات باستخدام كاميرا سرية. ولقد ارتديت النقاب لأنني أعيش في منطقة جغرافية ضيقه ويمكن التعرف عليّ بسهولة، وكنت أخشى أن يتم اكتشاف أمري أثناء زيارة دائرة العلاج بالخارج في وزارة الصحة. ولم أكن أعرف إن كان القانون يجيز لي ارتداء النقاب أثناء إجراء التحقيق، ولكن تبين لاحقاً بعد نشر التحقيق أن لا مشكلة قانونية في ذلك، وأنه لا يعد انتحالاً للشخصية.

على مدار عدة أيام، قمت بزيارات متتالية للمستشفى الحكومي الرئيس في قطاع غزة، تمكنت خلالها أن اثبت من خلال التصوير السري أن بعض الأطباء طلبوا مني رشوة مقابل منحي تحويلا علاجيا لا أستحقه بغرض مغادرة قطاع غزة لإتمام مراسم الزفاف على خطيبي في الضفة الغربية.

استغرق إعداد التقرير عاما ونصف، اكتشفت خلالها أن بعض رجال الأمن يبيعون تحويلات طبية مزورة لأشخاص غير مستحقين للعلاج، وأن آخرين يدعون أنهم مكلفون من مكتب الرئيس الفلسطيني من أجل متابعة ملف التحويلات الطبية ليتبين بعد التحري أنهم سماسرة لتزوير التحويلات الطبية.

ومع أنني حصلت على أدلة قاطعة، إلا أنني قررت إخفاء هويات المتورطين بناء على نصيحة محام في الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان). فنحن نعيش في مجتمع عشائري، وإظهار صور أياً من هؤلاء الأشخاص قد يعرضني للملاحقة العشائرية، رغم أن المهنية تتطلب أن يتم الكشف عن هوياتهم لأن الهدف من التحقيق هو الكشف عن الفساد، لكنني كنت مضطرة للامتثال لقواعد العرف والعادة التي تعد الأساس في تنظيم المجتمع الفلسطيني.

لم تشرف إدارة تلفزيون العربي خلال فترة الإعداد على التحقيق إطلاقا بل اكتفت بشرائه مني كما هو. وفي منتصف عام 2016، تم بث التقرير على تلفزيون العربي.

كما أن بعض الزملاء قالوا إنهم لن يتمكنوا من الدفاع عني إن لم أسلم المواد الخام، فكف الصحفيين لا يستطيع أن يناطح مخرز الحكومة.

زوبعة الاتهامات

بعد بث التحقيق مباشرة بدأت أتلقى تهديدات من أشخاص "يعتقدون" أنهم تضرروا منه. ثم تقدم الطبيب الذي تلقى الرشوة بشكوى ضدي، على الرغم من أنني لم أكشف عن هويته. تلقيت بعدها بلاغا من مكتب النائب العام يطلب مني الحضور فوراً من أجل التحقيق معي بشأن التحقيق. مثلت أمام النيابة العامة لمدة شهرين تقريباً، وكانت كل جلسة تحقيق تستغرق ثلاث ساعات. أرادوا أن يعرفوا من هم مصادري بشأن الأشخاص الذين ادعوا بأنهم يمثلون مكتب الرئيس الفلسطيني ورجال الأمن الذين كانوا يزورون وثائق التحويلات الطبية. وبما أن قانون المطبوعات والنشر الفلسطيني يمنح الصحفي الحق في الاحتفاظ بمصادره وعدم الكشف عنها إلا أثناء المحاكمة ، فكان من الطبيعي أن أرفض الكشف عن مصادر معلوماتي.

عندها تقدم المكتب الإعلامي الحكومي التابع لحكومة حماس بشكوى ضدي. طالبني المكتب الحكومي بتسليم المواد الخام له، لكي يقوم بدوره بتسليم المادة لمكتب النائب العام مقابل إغلاق الملف. وتدخل العديد من الزملاء الإعلاميين لإقناعي بذلك، ما اضطرني في النهاية إلى تسليم كافة المواد للمكتب الإعلامي الحكومي.

ربما كان هذا الخطأ الأكبر الذي ارتكبته، ولكنني كنتُ مضطرة لذلك لأنني أعرف إنهم سيضيقون على عملي إن لم أنصع لأوامرهم. فقد يتهمونني بالعمل لصالح أجندات خارجية، كما أن بعض الزملاء قالوا إنهم لن يتمكنوا من الدفاع عني إن لم أسلم المواد الخام، فكف الصحفيين لا يستطيع أن يناطح مخرز الحكومة.

 

السجن لستة أشهر

فوجئت أن القضاء في غزة أطلق عليّ حكماً غيابيا بالسجن لمدة ستة أشهر سارية النفاذ مع غرامه مالية تقدر بنحو 400 دولار أمريكي.

في عام 2017 تبين أنني مصابة بالسرطان، فاضطررت لمغادرة قطاع غزة لتلقى العلاج في العاصمة الأردنية عمان. وبعد ثلاثة أشهر من تلقى جرعات الكيماوي، فوجئت أن القضاء في غزة أطلق عليّ حكماً غيابيا بالسجن لمدة ستة أشهر سارية النفاذ مع غرامه مالية تقدر بنحو 400 دولار أمريكي. وكانت الإدانة بنشر أخبار كاذبة، عدم توخي الدقة في نشر أخبار تخص وزارة الصحة، إثارة الضغينة ضد وزارة الصحة، وانتحال شخصية. لم أتلق، لا أنا و لا المحامي، أي إشعار بصدور الحكم وإنما علمنا عن الأمر من وسائل الإعلام.

تحول الحكم إلى قضية رأي عام، ونشر صحفيون ونشطاء مقالات على مواقع التواصل الاجتماعي للمطالبة بوقف الحكم. عندها تدخل مكتب نائب رئيس حركة حماس يحيى السنوار، وأعطى أوامر بإلغاء الحكم إلى حين عودتي إلى القطاع. تدخله، وإن كان في صالحي، يعد أيضا مخالفا للقانون، إذ أن السنوار يمثل فصيلا سياسيا وليس حكومة. وبالفعل بعد عودتي صيف عام 2018 أعيدت المحاكمة على أساس أنني كنت متغيبة عن البلاد، ومثلت هذه المرة أمام القضاء في 10 جلسات.

في تلك الفترة كان ديوان الموظفين التابع للحكومة قد شكل لجنة تحقيق للطبيب المرتشي، وخلصت إلى أن ما ورد في تحقيقي كان صحيحا. حصلنا أيضا على شهادة من مراسل صحيفة الحياة في غزة فتحي صباح، باعتباره إعلاميا ذي خبرة كبيرة، قال بموجبها إن ارتدائي للنقاب لم يكن مخالفا للقانون مثلما ادعت النيابة العامة وأنني أعددت التحقيق بمهنية. وقد ركزت لجنة الدفاع عني أيضا على نقطة هامة، وهي أن النيابة العامة التي حركت الدعوى ضدي كانت تابعة لدائرة مكافحة الفساد وجرائم الأموال، والتي لا تملك الاختصاص في متابعة عمل الصحفيين.

في مارس آذار عام 2019 ، صدر حكم ببراءتي من كافة التهم.

للأسف لم يعاقب الطبيب المرتشي، وإنما تم فقط نقله للعمل في مستشفى آخر لمدة ستين يوما، عاد بعدها ليمارس عمله كأن شيئاً لم يكن. ولكن كان هناك قرار بتشكيل لجنة خاصة لمراقبة عملية منح التحويلات للعلاج في الخارج.

عندما تسعى السلطات إلى استهداف الصحفيين فإنها تبحث أولا عن الثغرات في عملهم وتسعى لاستخدامها ضدهم

لم أتوقف عن العمل الاستقصائي رغم ما مررت به، ففي ديسمبر كانون الثاني عام 2018، أعددت تحقيقا استقصائيا عن الفساد في مشروع سكني لذوي الدخل المتدني، حيث حصلت على معلومات بأن بعض هذه المساكن ذهبت لأسر ميسورة وأقرباء لمسؤولين في الحكومة.  ومع أن المضايقات لم تتوقف، إلا أن معركتي القضائية زادت من ثقتي بقدرتي على المضي قدما بالصحافة الاستقصائية. لزميلاتي اللواتي يتعرضن لمواقف مشابهة أقول: عندما تسعى السلطات إلى استهداف الصحفيين فإنها تبحث أولا عن الثغرات في عملهم وتسعى لاستخدامها ضدهم... فتأكدن أن عملكن خال من أي ثغرات قانونية أو مهنية، ولا تتحن المجال لأحد لإيقافكن عن القيام بمهامكن.

نصائح هاجر للحد من الشبهات القانونية في الصحافة الاستقصائية

  1. يجب أن تعرفي أولا ما هي الفرضية التي تسعين لإثباتها. في حالتي كانت الفرضية أن "غياب الرقابة على عمل دائرة العلاج بالخارج فتح المجال للفساد والرشاوى في نظام التحويلات الطبية وأهدر حقوق الكثير من المرضى".

  2. تحري الدقة والحصول على كل المستندات والوثائق التي تثبت صحة ما تنوين إظهاره. وحفظ نسخ إضافية منها.

  3. المراجعة القانونية لكل خطوات إعداد التحقيق. إذا كنت غير متأكدة من أي جزئية في عملية الإعداد، فلا تقدمي عليها قبل الحصول على استشارة قانونية.

  4. دعم القناة أو المؤسسة الإعلامية  التي تعملين لصالحها. واحد من أهم الدروس التي تعلمتها هي التأكد من أن أي مؤسسة أعمل معها في المستقبل مستعدة لتحمل مسؤولياتها القانونية أيضا ولدعمي والوقوف إلى جانبي في حال تعرضي للملاحقة القانونية ولأي مضايقات.