عزيزة نوفل ليست بجديدة على قطاع الصحافة الاستقصائية وتحدياتها، والقضايا التي تختارها شائكة وهامة: من البحث عن مهربي الآثار الفلسطينية التاريخية، إلى الجدل القانوني بين الأردن وفلسطين حول تسليم مرتكبي الجرائم ومحاكمتهم. ولكن عندما قررت عزيزة العمل على قضية التعذيب في السجون الفلسطينية لم تواجه مقاومة من السلطة الفلسطينية فحسب، وإنما من ضحايا التعذيب، والحقوقيين الذين يفترض أن يدافعوا عنهم، ومن المحررين أيضا.

منذ سنوات وأنا أعمل في مجال التحقيقات الاستقصائية. لكن هذا التحقيق كان مختلفا لأنه يتعلق بالتعذيب في سجون السلطة الوطنية الفلسطينية.

تبلورت الفكرة خلال مشاركتي بدورة متقدمة لتنفيذ التحقيقات الاستقصائية بالتعاون مع معهد الإعلام في جامعة بيرزيت وبرنامج دعم الإعلام الدولي (IMS). في تلك الفترة، كنت على اطلاع دائم على تقارير المؤسسات الحقوقية.

وقد يكون تحقيقي هو أول تحقيق يتناول التعذيب على خلفيات سياسية وليس جنائية فقط.

قضية التعذيب ليست بجديدة، ولكن الجديد هو أن السلطة الفلسطينية انضمت مؤخرا لاتفاقيات دولية تحرم التعذيب، وذلك بمبادرة منها وليس إملاء لشروط أجنبية. توقيع السلطة على اتفاقات تحرم التعذيب يتناقض مع تقارير المؤسسات الحقوقية التي تتحدث عن عشرات حالات التعذيب كل شهر. وهذه هي الحالات التي تحلى أصحابها بالشجاعة للحديث، وفي مقابل هؤلاء هناك الكثيرون الذين يصمتون إما خوفا من العقاب أو لشدة تأثرهم بما تعرضوا له داخل السجون. وقد يكون تحقيقي هو أول تحقيق يتناول التعذيب على خلفيات سياسية وليس جنائية فقط.

بدأت بوضع خطة لإنجاز التحقيق، وبدا الأمر سهلا وواضحا من الناحية النظرية. لكن التطبيق كان معقدا، ما اضطرني إلى تعديل بعض الأمور في خطتي.

البحث عن ضحايا التعذيب وتوثيق شهاداتهم كان صعبا للغاية. فمع أنني تمكنت من الوصول إلى عشرات الحالات، إلا أنهم اعتذروا عن الحديث للصحافة، حتى ولو تعهدت بعدم نشر تسجيل المقابلة. وصلنا إلى ضحايا كانوا يتلقون العلاج النفسي جراء ما تعرضوا له من تعذيب، وهؤلاء أيضا رفضوا التحدث معنا، خاصة أولئك الذين اعتقلوا على خلفيات جنائية كالسرقة وجرائم المخدرات.

لذا قررت التوجه إلى أسر المعتقلين الذين قيل إنهم قضوا نحبهم بسبب التعذيب، كما استخدمت فيلما أعدته إحدى المؤسسات الحقوقية، والذي تضمن شهادات لأشخاص قالوا إنهم تعرضوا للتعذيب.

لكن ما وجدته غريبا هو أن الكثير من الشخصيات الحقوقية والمحاميين لم يرغبوا بالحديث معنا، فهم يعتبرون التعذيب قضية عادية لا تستدعي الوقوف عندها، إذ أنها في أذهانهم حالة مستمرة وليست بجديدة. كانت هذه عقبة كلفتنا وقتا إضافيا لإقناعهم بالحديث.

لكن ما وجدته غريبا هو أن الكثير من الشخصيات الحقوقية والمحاميين لم يرغبوا بالحديث معنا

عندما اقتربت من إتمام التحقيق، لم يكن قد تبقى سوى التحدث مع الجهات الرسمية المسؤولة بشكل مباشر عن أوضاع السجون. لم تقبل الجهات الرسمية التحدث إليّ ، فتوجهت إلى مسؤولة قسم مناهضة التعذيب في وزارة الداخلية. لم تنكر وجود التعذيب، ولكنها حاولت التهرب أكثر من مرة من الإجابة بوضوح، قائلة إن إجراءات جديدة ستتخذ للحد من هذه الظاهرة.

أهم الاستنتاجات التي توصلت إليها، وبعد الاطلاع على تقارير لحالات تعذيب ما بين عامي ٢٠٠٨-٢٠١٨، هو أن التعذيب سياسة وليس حالات  فردية من أجهزة أمنية بحدها، كما تحاول الرواية الرسمية تقديمها. فالمحامون والمنظمات الحقوقية كلها تقول إن هذه الممارسات ضد المعتقلين لم تتوقف طيلة هذه الفترة. فلو أن الممارسات فردية كما تقول الأجهزة الرسمية، لما استمرت على نفس الوتيرة طيلة هذه السنوات.  

ولعل الاستنتاج الأهم هو أن الوضع في السجون التي تديرها حكومة حماس في غزة كان مماثلا، إذ أن أساليب التعذيب متطابقة، وإحصاءات  الانتهاكات متقاربة أيضا.

خلال إعداد التحقيق تعرضت لانتقادات كثيرة، إذ حاول البعض التقليل من حجم مشكلة التعذيب، مبررين رأيهم بأن التعذيب موجود في غزة أيضا

خلال إعداد التحقيق تعرضت لانتقادات كثيرة، إذ حاول البعض التقليل من حجم مشكلة التعذيب، مبررين رأيهم بأن التعذيب موجود في غزة أيضا ومعتبرين أن التركيز على التعذيب في الضفة ليس صائبا. في نهاية المطاف قمت بإدراج حالات التعذيب في القطاع رغم عدم قناعتي التامة بذلك لعدة أسباب أهمها:

-      أن التحقيق يتحدث في الأساس عن السلطة الفلسطينية وعن استمرار التعذيب تحديدا لأنها وقعت على اتفاقيات مناهضة التعذيب.

-      لم أتمكن من زيارة القطاع، وبالتالي وجدت صعوبة بالغة في البحث عن حالات وإجراء مقابلات، لذا اضطررت في النهاية إلى اعتماد شهادة زميل صحفي تعرض للتعذيب في سجون حماس. قابلته عبر الواتس أب وحصلت على شهادة صوتية منه، لكنني عدا ذلك لم أتمكن من العثور على أية حالة تعذيب على خلفية جنائية.

الصحافة الاستقصائية تحتاج إلى تفرغ وهو ما ينقصنا نحن المراسلين العاملين على إعداد تقارير إخبارية ميدانية. فلقد استغرق التحقيق ستة أشهر مع العلم بأنه كان يمكنني إتمامه في غضون شهرين لو أنني كنت متفرغة بشكل تام.

إضافة إلى ذلك فإن المؤسسات الإعلامية المحلية لا تنشر هذه التحقيقات أو توليها اهتماما لأنها تكلف وقتا ومالا. ولهذا يعزى الفضل  لبيسان الشيخ، إحدى مرشداتنا في شبكة ماري كولفن للصحفيات، إذ أنها ساعدتني على نشر التحقيق في موقع درج.