أثناء الثورة المصرية عام 2011، كانت ندى رشوان في السنة النهائية من دراستها في كلية التجارة. لم تكن تعرف ماذا تريد أن تفعل بعد التخرج، ولكن في اليوم الثامن عشر من الاحتجاجات، عندما أعلن الرئيس المصري آنذاك حسني مبارك أنه سيتنحى عن الرئاسة، قررت أن تصبح صحفية.

 اليوم، وبعد 13 عامًا من العمل مع صحيفة الأهرام، وهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، وصحيفة النيويورك تايمز، قررت ندى أن الوقت قد حان لأخذ استراحة والسفر لبدء زمالة أكاديمية في الولايات المتحدة. في هذا الحوار الصريح، تتحدث عضوة شبكة ماري كولفن للصحفيات عن معاناتها مع الصحة النفسية وتقدم بعض النصائح للصحفيات لتجنب الإرهاق النفسي جراء العمل الصحفي. 

تم تحرير المحادثة لأغراض تحريرية.

 كيف بدأت مسيرتك في الصحافة؟

بدأت كمتدربة في أهرام أونلاين، الموقع الإلكتروني باللغة الإنجليزية لمؤسسة الأهرام. أحببت الوظيفة وروح فريق العمل. كان ذلك الوقت زاخرا بالأحداث في تاريخ البلاد. كانت هناك احتجاجات يومية، والكثير من الموضوعات والأفكار للعمل عليها. كانت بداية مثالية لمهنة في الصحافة. 

أول مقال ظهر باسمي كان عن محاولات إصلاح الهيئة الوطنية للإعلام. كان ذلك العهد الذهبي لحرية الصحافة وكانت هناك أسئلة كثيرة حول تلك المؤسسة الوطنية الكبيرة.

لم أصدق نفسي عندما قرأت اسمي على المقال لأنني لم أكن أتخيل آنذاك أنني سأصل لهذه المرحلة. ولا يزال ينتابني ذات الشعور كلما قرأت اسمي على مقال.

بغض النظر عن كم الخبرة التي تمتلكينها، أو مدى إتقانكِ للغة الإنجليزية، فلا تعتبرين جزءًا من الفريق في نظر الإدارة، بل ينظر إليكِ كمساعدة للمراسل

حدثينا عن أهم خطوة في حياتك المهنية؟ 

كانت عندما انضممت إلى صحيفة النيويورك تايمز، وبدأت بالعمل مع مراسلهم الأجنبي. أمضينا أسابيع في العمل على قصة ضابط عسكري سابق كان يدير حملة تواصل اجتماعي سرية، مستخدما لاجئين سودانيين لنشر تغريدات للتأثير على الرأي العام وكسبه لصالح الجيش. عندما نُشرت القصة، لم يستطع ذلك الضابط مواصلة حملته وانسحب تمامًا عن وسائل التواصل الاجتماعي.

على الرغم من أن ظهور اسمي في صحيفة النيويورك تايمز كانت نقطة تحول في حياتي المهنية، إلا أنها لم تكن الفرصة الكبيرة التي كنت أتمناها لأنني كنت أعمل في ظل مراسل أجنبي. أعتقد أن فرصتي الكبيرة لم تحدث بعد وأن الأفضل آتٍ.

ماذا تقصدين عندما تقولين أنك كنت تعملين في ظل المراسل الأجنبي؟ 

هذه الوظائف مصممة للمراسل المحلي ليعمل كدليل للمراسل الأجنبي ويعرفّه بالثقافة المحلية وكيفية تحليل المعلومات التي تصله من المصادر. هذه الوظائف صمّمت لتكون جهدًا جماعيًا، ولكنهم لا يتعاملون معكِ بالتساوي. بغض النظر عن كم الخبرة التي تمتلكينها، أو مدى إتقانكِ للغة الإنجليزية، فلا تعتبرين جزءًا من الفريق في نظر الإدارة، بل ينظر إليكِ كمساعدة للمراسل.

عندما تعملين مع وسائل إعلام دولية، يتم تحديد المقال أو القصة بطريقة تجعل من الصعب جدًا إضفاء أي نوع من الخصوصية المحلية. قد يشجعكِ المحررون على الإبداع والتفكير بزوايا جديدة للقصة، ولكن في أغلب الأحيان تجدين نفس القصة منشورة في عدة مواقع، مع تغيير طفيف في الصياغة.

هل تشعرين بالقلق على سلامتك أحيانًا؟

نعم، بدرجات متفاوتة. يصل القلق إلى أوجه عندما يظهر اسمي على مقال. حجم الرقابة هائل في مصر.  فالهواتف مراقبة، ويقرؤون كل كلمة تكتبينها في الإعلام. إذا كنتِ تعملين لوسائل إعلام أجنبية فهم يعرفون صورتك واسمك، لا يمكنهم أن يخلطوا بينك وبين شخص آخر.

هل تشعرين بأنك تفرضين على نفسك رقابة ذاتية، وهل يعيق ذلك عملك؟

بالطبع، وتبدأ الرقابة الذاتية باختيار الموضوعات. عندما تفكرين في القصص، فإنكِ تعرفين ما هي الخطوط الحمراء. تعرفين أن هناك قصص لايمكنكِ تغطيتها لأنها قد تعرضك للخطر. هناك أفكار أتساءل إذا كنت سأتمكن يوماً ما من العمل عليها. أتمنى أن يفعل شخص آخر ذلك، ربما بعد عدة أجيال.

عندما تفكرين في القصص، فإنكِ تعرفين ما هي الخطوط الحمراء. هناك أفكار أتساءل إذا كنت سأتمكن يوماً ما من العمل عليها

هل هناك قصص معينة تتذكرين العمل عليها وأثرت على صحتك النفسية؟

في 13 أغسطس آب 2013، كنتُ في ميدان رابعة العدوية وأجريت مقابلات مع المعتصمين المحتجين على إزالة الرئيس السابق محمد مرسي. في اليوم التالي، استخدمت قوات الشرطة القوة القاتلة لتفريقهم في ما يعرف بـ "مجزرة رابعة". كانت مشاهد الدمار مؤلمة بالنسبة لي، خاصة لأنني كنت قد أجريت مقابلات مع الناس هناك قبل 24 ساعة فقط. لم أغادر منزلي لمدة أسبوعين أو ثلاثة. كان عمري 23 عامًا، ولم أكن أعرف أي تقنيات تكيّف نفسية.

ولن أنسى أبدًا تغطية الحكم في قضية بورسعيد عام 2013، حيث حُكم على أعضاء في نادي ألتراس بورسعيد بالإعدام بتهمة قتل 74 مشجعًا من نادي الأهلي في مباراة كرة قدم. كنت أقف خارج بوابة النادي الرياضي، في انتظار الحكم إلى جانب أنصار الضحايا. عندما أُعلن الحكم، بدؤوا جميعًا بالصراخ. في الوقت نفسه، كنت أقرأ الأخبار بأن أسر المتهمين كانت تصرخ أيضا عندما سمعت الحكم بالإعدام. الوقوف هناك ومشاهدة الطرفين يصرخان لأسباب مختلفة كانت تجربة مربكة، خاصة بسبب الاتهامات بتورط الحكومة في الحادث والاعتقاد بأن بعض المدانين بالإعدام لم يكونوا مذنبين. في تلك اللحظة، لم أكن أعرف ما هو الصواب وما هو الخطأ.

هل طلبتِ يومًا استشارة نفسية؟

نعم. أصبح العلاج النفسي جزءًا من حياتي في الأعوام العشرة الأخيرة، وكان بمثابة انفراجة أن أدرك أثر عملي على صحتي النفسية. أدركت حجم الألم الذي كنت أحمله، وكمية الغضب الذي كنت أختزنها. مشاعري الشخصية حيال الأحداث كانت تستنزف طاقتي. ساعدني العلاج على استعادة الشعور بالمتعة في العيش، بالرغم من أنني أدرك أن الكثير من الأمور من حولنا خاطئة.

هل تلقيتِ دعمًا من محرريكِ أو زملائكِ؟

في عام 2016، وبفضل دعم مديرتي، منحني مكتب بي بي سي في القاهرة، حيث كنت أعمل في ذلك الوقت، إجازة مرضية مدفوعة للعناية بصحتي النفسية. أعتقد أن هذه كانت أول مرة تمنح فيها مكتب بي بي سي إجازة كهذه.

كنت أعمل على تحليل وتغطية الأخبار الكبرى والعاجلة حول العالم مع بي بي سي، وكان عليّ الاستيقاظ في أوقات مختلفة لأداء واجباتي. أول واجب كان يبدأ في الساعة السادسة صباحًا، لذا كان عليّ الاستيقاظ في الخامسة صباحًا. كاد هذا أن يؤدي لانهيار صحتي النفسية لأنني لم أستطع تنظيم نومي.

كان هناك خطاب للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وكان عليّ الاستماع إلى كل كلمة يقولها لنقل الخطاب. لم أستطع كبت غضبي. كل شخص قمت بمقابلته، منذ أن تولى السيسي السلطة، يعرف شخصًا توفي في ميدان رابعة أو دخل السجن. أصدقائي لديهم أصدقاء في السجن، وأنا دائمًا على بُعد درجة واحدة أو اثنتين من شخص ما في السجن. لم أعد قادرة على التحمل، فوقفت وبدأت في الصراخ بسبب خطابه والتظاهر وكأنه لا تحدث أي جرائم حولنا. لم أشعر بانفجار عاطفي كهذا من قبل.

ساعدتني مديرتي في الحصول على إجازة مرضية لمدة أربعة أسابيع، والتي تمت بناءً على توصية من الطبيب النفسي. كانت هذه المرة الأولى التي تقر فيها بي بي سي في القاهرة الآثار السلبية لعملنا على صحتنا النفسية.

كان بمثابة انفراجة أن أدرك أثر عملي على صحتي النفسية. أدركت حجم الألم الذي كنت أحمله، وكمية الغضب الذي كنت أختزنها

متى قررتِ أنكِ بحاجة إلى أخذ استراحة من الصحافة؟

الحرب على غزة جعلتني أدرك أنني لم أعد قادرة على العمل. الآثار التراكمية لكل ما مررتُ به وصلت إلى نقطة لا أستطيع فيها حتى النظر إلى الأخبار. فلسطين كانت من أكثر القصص تحفيزا بالنسبة لي. كنتُ مُهتمةً بتغطية ما يجري في الأراضي الفلسطينية ومتابعتها. لذا فإن الوصول إلى نقطة لا أستطيع فيها قراءة الأخبار أو مشاهدة الفيديوهات أو استيعاب المعلومات القادمة من هناك كانت أوضح إشارة بأنه يجب عليّ أن أتوقف.

هل تنوين العودة إلى الصحافة بعد فترة الزمالة؟

نعم، على الأرجح بعد فترة الزمالة. لكنّني أنوي الابتعاد عن تغطية الأخبار العاجلة. ربما سأتجه إلى عمل الأفلام الوثائقية، أو ربما سأبدأ مشروعًا إعلاميًا جديدًا، شيئًا مختلفًا عن الصحافة التقليدية. لن أتخلى أبدًا عن المهنة، ولكن يمكنني تجربة أدوار مختلفة.

ما النصيحة التي تُقدِّمينها للصحفيين للتخفيف من تأثير عملهم على صحتهم النفسية؟

من المهم بناء حياة ثرية ومشبعة خارج العمل، والتواصل مع الأصدقاء والعائلة وممارسة الرياضة بانتظام. هذه الأمور هي التي ساعدتني حقًا. أحب مثلا رفع الأثقال! من المهم أيضًا الحصول على العلاج النفسي. إنه لا يُقدَّر بثمن. إنه السبب في أنني لم أعد أعتبر العمل مصدر الإشباع والقيمة الذاتية الوحيدة. إذا وُصف الدواء لك، فأعتقد أنه يجب ألا تترددي في تجربته. لقد أنقذ الدواء حياتي في أكثر من مرة و ساعدني على استعادة القدرة على العمل وبعض القدرة على الاستمتاع بالحياة.