كانت البداية هي الرغبة في تأريخ واحدة من أسوأ مآسي لبنان - انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020 - من خلال روايات الشهود الذين دفعوا ثمن الفساد والظلم. ولكن عندما بدأت دلال معوض بجمع شهاداتهم، أدركت أن مشروع كتابها أكبر من ذلك بكثير. في كتابها، بعنوان "كل ما فقدته"، تروي الصحفية اللبنانية وإحدى مرشدات شبكة ماري كولفن للصحفيات، القصة الكاملة لانهيار لبنان، من خلال روايات النساء اللواتي دفعن أبهظ الأثمان. من الحرب الأهلية، إلى انهيار النظام الاقتصادي والتمييز ضد النساء في النظام القانوني، وجدت دلال أن حكايات النساء نادرة في رواية تاريخ لبنان. تهدف دلال في كتابها إلى إصلاح ذلك، وتدمج قصص هؤلاء النساء بتاريخ عائلتها هي أيضا.
شبكة ماري كولفن للصحفيات: من أين أتت فكرة الكتاب؟
كانت النساء تتحدث لساعات دون انقطاع عن الحرب الأهلية أو صراعهن مع أزواجهن المتعسفين. ولهذا أدركت أن موضوع الكتاب هو أكبر من انفجار المرفأ
دلال معوض: لم أكن أنوي أبدًا تأليف كتاب. مررت بالكثير بين عامي 2020-2021 ، كمعظم اللبنانيين، خاصة بعد انفجار مرفأ بيروت. انتقلت الى باريس أثناء بداية الإغلاقات بسبب جائحة الكورونا. وهناك أمضيت وقتا في قراءة أعمال الصحفية البيلاروسية سفيتلانا ألكيسيفيتش التي حازت على جائزة نوبل. تأثرت للغاية بكتابها "صلاة تشرنوبل"، الذي يروي حادثة انفجار المفاعل النووي في تشرنوبل عام 1986 من خلال شهادات الأشخاص الذين كانوا هناك. كان كتابا قويا لدرجة أنه أبقاني مستيقظة خلال الليل. أدركت أنه بإمكاني استخدام نهج مماثل للكتابة عن انفجار بيروت، لكنني لم أعلم إذا كان هناك اهتمام لدى الناشرين بكتاب عن تاريخ شفوي لبيروت. عرضت الفكرة على بعض دور النشر، وأبدى اثنان منهم اهتماما بالفكرة. أعتقد أن الأمر يتعلق بالتوقيت. كان الانفجار حدثًا جديداً، ولم يكن هناك محتوى كافٍ عنه باللغة الإنجليزية. عندما بدأت بجمع الشهادات، لاحظت أن غالبية من تحدثوا معي كانوا من النساء. لذا غيرت نهجي وقررت التركيز على قصص النساء والنظر في النطاق الأوسع للوضع الذي أدى إلى انهيار لبنان.
شبكة ماري كولفن للصحفيات: نظراً للتغطية الإعلامية الواسعة لأزمات لبنان المتعددة، قد يقول البعض أن كتابك هو نسخة موسعة لما تم نشره سلفا. فما الذي يميّز كتابك؟
دلال معوض: ما يميّز كتابي هو روايات النساء. فهن يروين قصصهن بشكل معمّق وتفاصيل تتجاوز الصحافة التقليدية. هذا النهج يقدم شرحا أكثر حميمية وعمقًا لتجاربهن. والأسلوب أيضًا مميز. فبدلاً من أن أكتب أنا عن ما قالته لي النساء، اتبعت أسلوبا مستوحى من منهج التاريخ الشفهي. لم أعمد إلى تحرير أو تنقيح أصواتهن، وهذا ما جعل الروايات مقنعة وقريبة من القارئ. إذا نظرنا إلى أسلوب كتابة التاريخ في منطقتنا، فلن نجد الكثير من الأصوات النسائية. لم تتح بعد الفرصة للنساء لرواية التاريخ من منظورهن.
شبكة ماري كولفن للصحفيات: لقد أجريت خلال مسيرتك المهنية مقابلات لا تحصى مع ضحايا العنف بجميع أشكاله. كيف كانت هذه التجربة مختلفة بالنسبة لك؟
دلال معوض: أجريت مقابلات مع ثلاثين امرأة لهذا الكتاب، لكنني لم أتمكن من نشر جميع قصصهن. كان صعبًا لأن أغلبهن لم يتحدثن عن الانفجار من قبل بكل هذه التفاصيل. كنت أجلس مع كل امرأة لمدة 3-4 ساعات، و كنت أعود لزيارة البعض منهن إذا شعرت أن محادثتنا لم تكتمل. كنت أبدأ بسؤال عام مثل: "أخبريني ماذا حدث في الرابع من آب/أغسطس"، وكن يتحدثن لساعات دون انقطاع، ثم ينتقلن في الحديث عن قضايا أخرى، مثل الحرب الأهلية (1975-1991) أو صراعهن مع أزواجهن المتعسفين أو الطلاق إلخ. ولهذا أدركت أن موضوع الكتاب هو أكبر من انفجار المرفأ. ولكن كانت المقابلات أحيانا تنتهي فجأة. هناك امرأة إطفائية فقدت زميلتها في الانفجار، وأثناء الحديث شعرت بعدم الراحة وانتهت المقابلة خلال أربعين دقيقة. أردت أن أسألها المزيد، لكنها كانت تعاني من صدمة شديدة، وكان واضحا أنه يجب عليّ التوقف. شعرت بالكثير من العبء العاطفي، خاصة عندما كنّ يبكين لساعات. دفعتني هذه التجربة للتساؤل عن دوري كصحفية وعن الحدود الأخلاقية. لكنني في تلك اللحظات اخترت أن أكون إنسانية، وأن أقدم دعما يتجاوز مجرد الاستماع والكتابة. بكيت معهن، واحتضنت بعضهن، ونصحت بعضهن بطلب الدعم القانوني.
دفعتني هذه التجربة للتساؤل عن دوري كصحفية وعن الحدود الأخلاقية. بكيت معهن، واحتضنت بعضهن، ونصحت بعضهن بطلب الدعم القانوني.
شبكة ماري كولفن للصحفيات: لو كان بإمكانك تكرار هذه التجربة، ما الذي ستغيّرينه في أسلوبك للمقابلات؟
دلال معوض: الكثير من هؤلاء النساء كنّ يتحدثن لأول مرة، وأغلبهن لم يتلقين جلسات استشارة نفسية. وجدت نفسي في مواقف كنت أستمع خلالها كمعالجة نفسية، مع أنني لا أملك المعرفة ولا التدريب الذي يتمتع به المعالج النفسي. كان عليّ التعامل بحذر، وربما كان من الأفضل أن أطرح أسئلة أكثر عمومية في البداية، قبل الخوض مباشرة في ذكريات الانفجار. كان بإمكاني أيضاً التعمّق في تجاربهن خلال الحرب الأهلية لأنهن تطرقن إلى هذا الموضوع بشكل تلقائي خلال حوارنا.
شبكة ماري كولفن للصحفيات: تتحدثين أيضًا في الكتاب عن أثر مشاكل لبنان عليكِ أنت شخصيا، بما في ذلك تجربتك مع اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD). فكيف أثرت تجربة تأليف هذا الكتاب عليكِ؟
لم تحصل جدتي على العدالة لمقتل زوجها. وأثناء هذه المقابلات، أدركت أن التاريخ يعيد نفسه.
دلال معوض: لقد عايشت انهيار لبنان وانفجار مرفأ بيروت، ولذا فإن تأليف هذا الكتاب كان تجربة شخصية مليئة بالتحديات. هذا الكتاب دفعني لمواجهة شعوري بالذنب لمغادرتي لبنان وشعوري بأنني لم أبذل ما فيه الكفاية. وفي نفس الوقت أتاح لي التعامل مع مشاعري وأن أكون أنا أيضا جزءًا من القصة. أتحدث في الكتاب عن جدتي التي فقدت زوجها عام 1957. لم يكن جدي منخرطًا في السياسة، لكنه قُتل في عراك بين عائلات. كانت جدتي تبكي كلما روت الحكاية، وفي كل مرة لم يكن بوسعي سوى معانقتها والشعور بالعجز. لم تحصل جدتي على العدالة لقتله، وخلال المقابلات مع هؤلاء النساء، أدركت أن التاريخ يعيد نفسه.
شبكة ماري كولفن للصحفيات: هل كان في ذهنكِ جمهور معيّن للكتاب؟
دلال معوض: اللبنانيون والعرب في المهجر مهتمون بهذا الكتاب، لكن جمهوري الأساسي كان أولئك المهتمين بالشرق الأوسط ولبنان، الذين ليس لديهم علم بتفاصيل الوضع. أردت الحفاظ على القصة للمهتمين بتجارب المرأة والقصص الإنسانية بشكل عام. تعمدت الكتابة باللغة الإنجليزية ليكون هذا التوثيق في متناول جمهور أوسع.
شبكة ماري كولفن للصحفيات: هل تعتقدين أن هذا الكتاب سيساهم في تحقيق المساءلة في لبنان؟
دلال معوض: لا أستطيع التنبؤ بالمستقبل، لكن هذا الكتاب بمثابة دليل وتوثيق. أنا أستخدمه لمواصلة التوعية والدعوة إلى تحقيق العدالة وتذكير العالم بأن القصة لم تنته بعد، وأن المساءلة ضرورية لمستقبل لبنان.