hello world!

 

في كثير من الأحيان، هناك "ضحايا" في الأخبار والقصص التي نقوم بتغطيتها، أي أشخاص تعرضوا لأذى نفسي أو جسدي جراء اعتداء مباشر عليهم. سواء كان الاعتداء جنسيا أو اعتداء مسلحا، أو أي نوع آخر من العنف، فإن الصحفي قد يجد أن الموازنة ما بين الحاجة إلى تغطية الخبرمن جهة، واحترام مشاعر وخصوصية الضحية من جهة أخرى، قد تكون أمرا صعبا

في أكتوبر تشرين الثاني عام ٢٠١٥، تعرضت شابة مصرية تدعى سمية عبيد لاعتداء من قبل شخص غريب في أحد المجمعات التجارية في القاهرة.

تقول عبيد إن الرجل كان يلاحقها، ثم استوقفها وطلب منها العودة معه إلى المنزل. عندما هددته سمية بطلب الشرطة، صفعها مرتين. هذه الحادثة سجلتها كاميرات المراقبة في المجمع، وتقول عبيد إنه تبين لاحقا أن رجال الأمن في المكان كانوا يعرفون الرجل لأنه كان يلاحق أخريات. ولكن بعد أيام من تقديم بلاغ رسمي لدى الشرطة، لم يتم إلقاء القبض على أحد، فقررت عبيد التوجه إلى وسائل الإعلام للتحدث عن تجربتها كضحية اعتداء.

أغلب المحطات التلفزيونية  كانت متعاطفة معها، وتغطيتهم الإعلامية ساهمت في النهاية بحث الشرطة على إلقاء القبض على المعتدي. ولكن هناك إعلامية واحدة قررت أن تركز على سمية عبيد، وشككت في سمعتها، مدعية أن سلوكها ساهم في وقوع الاعتداء. ريهام سعيد، مقدمة برنامج (صبايا الخير) في قناة النهار المصرية، هاجمت سمية عبيد واتهمتها بأنها كانت ترتدي ملابس غير لائق(جينز وبلوزة بدون أكمام) في يوم الحادثة. ولكن ما صدم سمية أكثر هو أن البرنامج نشر صورا خاصة لها، كانت قد أخذت من هاتفها المحمول وبدون علمها أو موافقتها، وأن البرنامج قدم هذه الصور كدليل على سوء سمعتها. هذه الحادثة أثارت جدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي حيث انتقد الكثيرون ريهام سعيد لسلوكها غير المهني. تم بعد ذلك إيقاف البرنامج، كما رفعت سمية عبيد قضية تشهير وانتهاك الحرمة الشخصية. ومع أن المحكمة أدانت ريهام سعيد في مارس آذار ٢٠١٦ إلا أنها ربحت الاستئناف في القضية لاحقا، إذ تمت تبرئتها من كل التهم وعادت لتقديم البرنامج من جديد.

الحكم الأولي في القضية كان مثيرا للجدل أيضا، فالمؤسسات المدافعة عن حقوق الإعلام (وإن كانت ترى أن ريهام سعيد تستحق العقاب على سلوكها غير المهني) إلا أنها عارضت الحكم الأولي بالسجن لمدة ١٨ شهرا، لأنها تعتبر أن قضايا التشهير هي من اختصاص المحاكم المدنية وليس الجنائية.

من الصعب تقييم الضرري النفسي والمعنوي الذي أصاب سمية عبيد وأثر على سمعتها بسبب هذه القضية. فأي بحث عشوائي على موقع (يوتيوب) مثلا لن يظهر نتائج للحلقة التي بثتها قناة النهار، لكنه سيظهر كثيرا من الصور الشخصية لسمية عبيد. هي تعتبر أن هذه الحادثة كانت فضيحة أثرت سلبا على علاقتها مع أسرتها وأنها لفترة طويلة باتت تخشى الخروج إلى الشارع كي لا يتعرف عليها أحد.

هناك أمثلة كثيرة على السلوك غير المهني وغير اللائق من قبل صحفيين، والذي قد يتسبب بمزيد من الضرر والأذى لضحايا الصدمات. هذا الضرر يطلق عليه الأخصائيون النفسيون مصطلح "الجرح الثاني".

مثلا، لم يتضامن كثيرون على وسائل الاتصال الاجتماعي مع ميشلين عازار، مراسلة قناة الدنيا السورية، بعد تغطيتها للمجزرة التي وقعت في مدينة داريا الجنوبية في أغسطس آب عام ٢٠١٤. في معرض بحثها عن إجابات حول هوية القاتلين والضحايا، صوبت الميكروفون في وجه امرأة بينما كانت ملقية على الأرض وعلى وشك الموت، وسألتها عن من أطلق النار عليها. بعد ذلك توجهت بأسئلتها إلى طفلة في حالة صدمة، إذ كانت تجلس في حضن امرأة ميتة، وسألتها إن كانت تلك الامرأة والدتها. وقد أثار التقرير انتقادات لاذعة على وسائل الاتصال الاجتماعي، إذ اعتبر الكثيرون (بمن فيهم إعلاميون وفنانيون سوريون مرموقون) أن المقابلات التي أجرتها ميشلين عازر سادية وعديمة الإنسانية.   

"نحن لسنا سلعة ونتوقع من الصحفيين أن يحاوروننا بأسلوب لا يتعدى على حقنا في الحزن والعزاء."

ولكن فيما عدا هاتين الحالتين (واللتين يمكن وصفهما بالتطرف من ناحية الافتقار إلى المهنية) فإن هناك مواقف أخرى لصحفيين تسببوا بدون قصد بمزيد من الأذى لضحايا الصدمات والحوادث بسبب تصرفاتهم غير المهنية. في لبنان مثلا، من المعتاد أن يسارع الصحفيون إلى المستشفيات بعد حدوث انفجار وإجراء مقابلات مع الضحايا والخرحى وهم في خضم الصدمة. ويصل بهم الأمر أحيانا إلى إجراء مقابلات مع الأطفال وطرح أسئلة غير حساسة ولا تراعي الطفل. في العراق أيضا عندما كان المدنيون يحفرون المقابر الجماعية عام ٢٠٠٣ بحثا عن جثث أبنائهم وأقربائهم، كانوا يشعرون بالضيق من كثرة وسائل الإعلام واعتبروا وجودها أحيانا بمثابة تطفل عليهم، وقد أفضى ذلك في بعض الأحيان إلى ردود فعل غاضبة من العراقيين.  

ولكن ليس من السهل دوما العثور على الصيغة المثالية للموازنة ما بين الحصول على التقرير أو القصة واحترام الحدود المتعلقة بخصوصية الأشخاص الذين يعانون من الصدمة. فبعض الصحفيين يقولون إنهم لا يعرفون أحيانا كيف يرسمون تلك الحدود، خاصة في حال وقوع حادث أو هجوم كبير. فإذا وقع هجوم كبير في غزة مثلا، متى يمكن للصحفي التوجه إلى مكان الحادث لطرح الأسئلةعلى الناس؟ وهل يمكن للصحفي التريث والانتظار بينما طواقم الإعلام الأخرى موجودة هناك؟ إجراء المقابلات مع الأطفال هي أيضا مسألة في غاية الحساسية، فهل من المقبول أن يكون الطفل محاطا بوسائل الإطفال؟ خاصة إذا كان قد فقد أحدا من آبائه أو أخوته؟ وهل يمكن في حالات كهذه الحصول على موافقة مكتوبة من ولي أمر الطفل لإجراء مقابلة معه؟

هذه المسئلة لا تقتصر فقط على الإعلام العربي، فالكثير من الصحفيين حول العالم تعرضوا لانتقادات بسبب أسلوبهم في التعامل مع ضحايا الصدمات. فعندما وقعت تفجيرات لندن عام ٢٠٠٥ أعرب الكثير من الناجين عن غضبهم بسبب أسلوب الصحفيين البريطانيين في التعامل معهم فور خروجهم من القطارات التي تعرضت للتفجير، إذ أمطرهم بعض الصحفيين بوابل من الأسئلة بينما كانوا لا يزالون في خضم الصدمة.

مركز "دارت للصحافة والصدمات The Dart Center for Journalism and Trauma  يقترح قائمة مبسطة، ولكن هامة، من الأمور التي ينبغي على الصحفي اتباعها أثناء إجراء مقابلات مع ضحايا الصدمات. هذا لا يقتصر على ضحايا الحروب والإرهاب وإنما ينطبق أيضا على أي شخص يتعرض لخسارة كبيرة (كوفاة أحد الأقرباء في حادث عرضي أو جراء كارثة طبيعية) أو يصاب بأذى جسدي أو نفسي:

  • الاحترام في التعامل مع الضحية، حتى في خضم وجود الطواقم الإعلامية: من الشاق نفسيا على ضحايا الصدمات أن يجدوا أنفسهم محاطين بكاميرات وسائل الإعلام، خاصة في خضم الحادث المأساوي (كوقوع هجوم إرهابي، أو حادث سير أو حتى في طريقهم إلى المحكمة مثلا).

  • القبول بكلمة "لا" كإجابة قاطعة: إذا كان الشخص لا يرغب بالحديث فمن الأفضل تركهم لوحدهم. وإذا شعر الصحفي بأن الشخص الذي ستجرى معه المقابلة ليس في وضع يؤهله للإجابة على أية أسئلة فمن الأفضل تركه بسلام.

  • التأكد من الحقائق: الدقة في نقل الخبر بتفاصيله هي قاعدة بديهية لأي صحفي، ولكنها تصبح أكثر أهمية وإلحاحا عندما يتعلق الأمر بضحايا. فمجرد غلطة إملائية أو اختلاط في الأسماء قد يتسبب بصدمة نفسية لآخرين، أو يشكل إهانة لأهالي الضحايا.

  • الحصول على موافقة خطية إذا أمكن: في التقارير الإخبارية من الضروري جدا أن يعرف الشخص الذي تجرى معه المقابلة اسم القناة والبرنامج الإخباري وهوية المذيع الذي يحاوره. ولكن إذا كانت المقابلة لبرامج أو أفلام وثائقية أطول فمن الضروري جدا أن يوقع الشخص على استمارة أو نموذج كإقرار خطي بموافقته على إجراء المقابلة، ويجب أن تتضمن الوثيقة تفاصيل واضحة عن ماهية المقابلة وكيف سيتم استخدامها. وثيقة الموافقة مهمة جدا أيضا عندما يتم إجراء المقابلة مع الأطفال، إذ من الضروري الحصول على موافقة أولياء أمورهم خطيا. الهدف من ذلك هو حماية الطفل وحماية القناة الإعلامية من ناحية قانونية أيضا. ولكن هناك حالات تم فيها استخدام هذه الوثائق كوسيلة تضليل ولتبرئة القناة من أي مسؤولية قانونية أو أخلاقية. ففي قضية سمية عبيد مثلا، طلب منها رئيس تحرير في قناة النهار أن توقع على وثيقة تتحمل بموجبها كامل المسؤولية عن المحتوى التحريري للحلقة. ولكنها تقول إنها عندما قامت بتوقيع الورقة لم تكن تعرف أن القناة كانت قد حصلت على صورها الخاصة وتنوي نشره.

  • الانتباه للكلام أو الألفاظ: بعض ضحايا الصدمات أعربوا عن حزنهم وغضبهم لأن الأسئلة التي طرحت عليهم لم تراعِ حساسية الموقف. ولذا غالبا ما يُنصح الصحفييون بأن يضعوا أنفسهم في مكان الضحية وأن يطرحوا الأسئلة التي كانوا سيرغبون بسماعها لو أن الحادثة وقعت معهم. كقاعدة عامة، من الأفضل أن تقتصر الأسئلة على وقائع الحادثة (تفاصيل ما حدث، والآثار الناجمة عنه). من الضروري أيضا الإعراب عن التعاطف أو التعازي. ومع أن بعض الضحايا قد يغضبون لسماع سؤال مثل: "ما هو شعورك الآن؟" مباشرة بعد وقوع الحادثة، إلا أن البعض الآخر قد يرون أن السؤال فيه شيء من المواساة. البعض يتواجب بشكل أكثر إيجابية مع أسئلة بصياغة مختلفة. يمكنك مثلا أن تقول: "لا يمكنني أن أتخيل كيف كان وقع التجربة أو الحادثة عليك، ولكنني أود أن أفهم ذلك ولذا أرجو أن تقول لي المزيد عن ما حدث." روجر ممبري هو مواطن أسترالي وأب لفتاة مفقودة منذ عام ١٩٩٤، والافتراض السائد هو أنها في عداد الموتى، وهكذا لخص فاجعته في التعامل مع وسائل الإعلام : "نحن لسنا سلعة ونتوقع من الصحفيين أن يحاوروننا بأسلوب لا يتعدى على حقنا في الحزن والعزاء."

  • اختصروا في الأسئلة: وبعد الانتهاء من المقابلة أو إطفاء الكاميرا، لا ضرر من لفتة بسيطة لمواساتهم. فإذا كان الظرف مناسبا بالإمكان عناق الشخص أو لمس ذراعه أو ذراعها، كبادرة بسيطة لكي يدرك الشخص أنكم تشعرون معهم.