في صيف عام 2019، ضجّت وسائل الإعلام الدولية بقضية الصحفية المغربية، هاجر الريسوني، والتي حكم عليها بالسجن بعد أن أدينت بالإجهاض غير القانوني، على الرغم من أنها أثبتت بالتحاليل الطبية أنها لم تقم بذلك. كانت هاجر تعمل آنذاك مع صحيفة أخبار اليوم المعارضة، والمعروفة بانتقادها للنظام الحاكم.
تسببت قضيتها بإحراج كبير للمغرب وأصدر الملك محمد السادس عفوا عن هاجر في أكتوبر تشرين الأول 2019. كان من المفترض أن تكون تلك نهاية المتاعب لها، ولكن عندما قالت هاجر إن العفو الملكي لم يكن مكرمة بل تراجعا عن الظلم الذي تعرضت له، قررت السلطات أن تلاحقها من جديد.
تعيش هاجر اليوم في باريس، حيث تكمل دراسة الماجستير في جامعة السوربون.
لنبدأ من لحظة خروجك من السجن بعفو تام بتاريخ 17 أكتوبر تشرين الأول 2019. كان من المفترض أن تكون هذه اللحظة انتصارا لكِ، ولكنكِ غادرت المغرب بعدها بفترة وجيزة فما السبب؟
لو أنني لم أغادر المغرب لكنت قد جننت أو انتحرت
ظننت أنه بعد خروجي من السجن سأطوي هذه الصفحة وأحاول العودة إلى حياتي. ولكن بعدها مباشرة بدأ مسلسل آخر من المضايقات.
بعد يومين فقط من خروجي من السجن هوجمت من قبل موقع "برلمان.كوم" وهو موقع مقرب من السلطة، إذ اعتبروا أن العفو الملكي لا ينفي التهم عني. كانت سيارات الشرطة تقف أيضا خارج بيتي وتراقبني. بعد ثلاثة أشهر عدت للعمل في جريدة أخبار اليوم، ولكنني كنت أشعر أنني مراقبة طيلة الوقت. في الثاني والعشرين من أيّار مايو 2020 اعتقل عمي ورئيس تحرير أخبار اليوم سليمان الريسوني، فازدادت المضايقات علينا. أذكر مرة أن ابن عمتي زارني في منزلي لنتحدث في ما يجري. وضعنا هواتفنا الخلوية بعيدا خوفا من أن تكون مراقبة. في اليوم التالي وجدنا تفاصيل حوارنا السري منشورة على الموقع الذي كان قد هاجمني.
هذا الوضع جعلني أعيش في رعب. لم أعد أنام وأنا أفكر أنهم سيطرقون الباب في أي لحظة ويعتقلونني. كنت أخشى أن يصوروني عارية في بيتي كما كانوا قد فعلوا سابقاً مع أحد أفراد عائلتي. لم أتحمل فكرة العودة إلى السجن مرة أخرى وخوض ما مررت به هناك من جديد. لو أنني لم أغادر المغرب لكنت قد جننت أو انتحرت.
عندما حاولت مغادرة المغرب رفضوا السماح لي بالخروج وطلبوا من زوجي، وهو سوداني الجنسية، أن يغادر البلاد وحده. هنا ازداد خوفي من أنهم ربما يدبرون لي تهمة أخرى. تدخل مسؤول في الحكومة لدى وزير الداخلية للسماح لي بمغادرة المغرب، بشرط أن أتوقف عن الكتابة عن المغرب وعن نشاطي الحقوقي وأن أصمت.
صفي لنا كيف كانت حياتك في السودان. هل كان ممكنا لكِ أن تلتزمي الصمت حيال ما يجري في المغرب وأنت تراقبين الوضع عن بعد؟
وصلت إلى السودان في نفس الوقت الذي اعتقل فيه زميلي، الصحفي والناشط عمر الراضي، فتحدثت علنا عن قضيته. عندها تواصل معي ذات المسؤول الذي سمح لي بالخروج من المغرب، وهددني وهدد عائلتي مع تبعات الاستمرار في الكتابة، لكنني قررت الاستمرار لأنني أعتبر أن ما أقوم به هو مسؤولية تجاه زملائي وتجاه وطني. بعدها بمدة اكتشفت أن هاتفي وهواتف زوجي وبعض أفراد عائلتي كلها مخترقة من قبل برنامج البغاسوس، وذلك بعد أن نشرت منظمة العفو الدولية تقريرا حول هواتف الصحفيين والنشطاء المخترقين.
كنت أعتقد أنني سأجد عملا في السودان مع وسائل إعلام دولية بسرعة، لكنني فوجئت بأن الأمر ليس بالسهل.
لم تكن الحياة في السودان سهلة بالنسبة لي على الرغم من أن الناس طيبين جدا وخدومين. لكن أسلوب الحياة كان مختلفا، ناهيكِ عن الصعوبات اليومية كانقطاع الكهرباء والماء والطقس الحار. لم أستطع التأقلم خصوصاً لأنني ابنة منطقة جبلية في المغرب. كما أن جلوسي في البيت والعمل عن بعد، بعد أن كنت نشيطة وأعمل في الميدان، خلق لي مشاكل في التوزان.
أكثر ما كنت أخشاه هو وأنني سأضطر لأخذ قرارات لا أريدها وخصوصا اللجوء
ومع ذلك، فإن خروجي من المغرب منحني طاقة جديدة لكي أستمر في الدفاع عن زملائي المعتقلين وأتحدث ضد الانتهاكات الحقوقية. أنشأت مع عدد من الزميلات حركة حقوقية اسمها خميسة تدافع عن حقوق النساء وحرية التعبير والصحافة في المغرب. ومن خلال هذه الحركة نظمنا حملات تضامن برفقة منظمات دولية لنناصر الصحفيات والحقوقيات اللواتي تعرضن لتشهير أو انتهاكات.
الفترة التي تواجدت فيها في السودان كانت الأكثر نشاطا من خلال تتبع قضايا زملائي والترافع عنهم، لكن التهديدات من المغرب لم تتوقف في ذلك الوقت.
عندما التقينا بكِ في تونس في مارس آذار 2022 خلال المنتدى الدولي للصحافة، كان جواز سفرك على وشك الانتهاء ولم يكن بوسعك التنقل بحرية. صفي لنا ما كان يحدث في تلك الفترة.
نعم عشت فترة صعبة جداً بعدما اقترب جواز سفري من الانتهاء. فقد رفضت القنصليات المغربية في تونس ومصر والسودان تجديده لي. كنت لا أنام وأنا أفكر في مصيري بدون أوراق. أكثر ما كنت أخشاه هو وأنني سأضطر لأخذ قرارات لا أريدها وخصوصا اللجوء.
لم يكن هناك مبرر قانوني لرفض تجديد جواز سفري. كانت السلطات تسعى فقط للتضييق عليّ. حتى تونس منعت من دخولها في البداية، لولا أن المنظمات الدولية تدخلت وضغطت على السلطات هناك للعدول عن قرارهم.
بالإضافة إلى ذلك فإن الوضع السياسي في السودان في تلك الفترة لم يكن مستقرا، فشعرت أنه ليس لدي مكان أذهب إليه وأستقر فيه. دخلت في حالة من التوتر والقلق، وفي بعض الأحيان كنت أنعزل عن العالم. لكن الحمد لله، فالأوقات الصعبة تمر، وتجعلنا أقوى وأقدر على مجابهة الحياة.
رفضتِ فكرة طلب اللجوء السياسي في دولة أوروبية، فما السبب؟
اللجوء يعني القطيعة مع الوطن والأهل والأصدقاء. يعني الغربة والوحدة، وأنا دائما لدي أمل أن أعود للعيش في المغرب في أمن واستقرار دون خوف من الاعتقال أو الاعتداء على حريتي وحياتي الشخصية. لو كنت طلبت اللجوء لانتهى ذلك الأمل.
أنا مواطنة مغربية بالرغم من كل ما تعرضت له. أحب وطني وأناضل لكي نصبح دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان. ولذلك أرفض أن أتخلى عن هذه الصفة وأن أتحول إلى نصف مواطنة في بلد آخر.
واجبي كصحفية هو أن أدافع عن الحرية وحقوق الإنسان والعدالة، وأن أبحث وأتحرى لكشف الانتهاكات عندما تطاول أيا من هذه الحقوق
كيف تمكنتِ في نهاية المطاف من السفر إلى فرنسا؟
بينما كنت في تونس بحثت عن عمل مع وسائل إعلام دولية ونظمات دولية، ولكنني حتى الآن لم أتلق أي عرض. ذلك الانتظار الطويل دفعني للتفكير في تأسيس مشروع إعلامي خاص بي. وعندما بدأت بالتخطيط له وصلتني رسالة مفادها أنه تم قبولي في جامعة السربون. كنت قد قدمت طلبا لدراسة الماجستير في التاريخ السياسي لشمال إفريقيا والشرق الأوسط،
لكنني كنت قد نسيت الموضوع.
ذاك الخبر جعلني أفكر ملياً في ما أرغب فيه. لم أحصل على منحة دراسية ما يعني أنني مضطرة للعمل لدفع مصاريف دراستي، وربما إيقاف مشواري المهني لسنتين. قررت في النهاية الالتحاق بالجامعة. تمكنت بعد عناء طويل تجديد جواز سفري وأخذت التأشيرة وجئت لباريس لأبدأ محطة جديدة في حياتي.
هل تخشين المزيد من التبعات إن واصلتِ الحديث عن ما يحدث في المغرب؟
طبعا فالخوف شعور إنساني. أسرتي أيضا تمارس ضغطا عليّ خوفاً من تبعات الاستمرار في الحديث عن الأوضاع في المغرب. فقد تسعى السلطات للتشهير بي وهم لا يتحملون ذلك لأننا أسرة محافظة.
لكن ما أفعله اليوم هو واجب تجاه وطني وزملائي المعتقلين. واجبي كصحفية هو أن أدافع عن الحرية وحقوق الإنسان والعدالة، وأن أبحث وأتحرى لكشف الانتهاكات عندما تطاول أيا من هذه الحقوق.
هذا العمل الحقوقي أصبح جزءا مني، وأشعر أن هناك قوة أكبر مني تدفعني للمضي قدما في هذا الطريق، رغم ما يسببه من ضغط نفسي وأرق، وفقدان للأصدقاء الذين باتوا يخافون من التواصل معي.
المغرب يستحق هذا النضال من أجل الحرية والديمقراطية. ربما البعض يرى أن هذه مثالية، لكن من تجرع من كأس الظلم لا يمكن أن يسمح به.