في ديسمبر كانون الأول عام 2016، اقتحم مسلحون منزل الصحفية العراقية أفراح القيسي في بغداد، واختطوفا من أمام ابنيها الاثنين. كانت أفراح تدرك أن الاختطاف ما هو إلا مسألة وقت إذ تلقت تهديدات في السابق بسبب مقالاتها التي تنتقد نفوذ الميليشيات المسلحة في العراق. أُطلق سراحها أخيرا بفضل الضغط الاجتماعي والدولي، ولكنها أدركت أن البقاء في البلاد لم يعد خيارا: ففي مقابل المؤيدين لها، اتهمها كثيرون بإثارة نعرات طائفية واستمرت التهديدات بإيذائها.
هي الآن تعيش في فرنسا مع ابنيها.
****
حدثيني أولا عن قرارك مغادرة العراق.
"قال لي أخي، إذا كنت لا تخافين على روحك، نحن نخاف، من الأفضل أن تغادري".
بعد الإفراج عني عام 2017، حصلت على دعم كبير من شخصيات حكومية وزملاء صحفيين ومنظمات دولية لأنني خرجت من موت محتم. ولكن في المقابل، حذرني زملاء من أنني أصبحت مستهدفة وأن احتمال اغتيالي وارد. تعرضت في تلك الفترة لضغوط كثيرة من عائلتي، خاصة لأنني عدت للكتابة عن انتهاكات المليشيات المسلحة وسطوتها. شعرت بأنني أصبحت عبئًا على عائلتي، والتي أصبحت هي أيضا مهددة بسببي. أتذكر أن أخي الكبير قال لي :" إذا كنت لا تخافين على روحك، نحن نخاف، من الأفضل أن تغادري". أما زوجي السابق، والذي كان يعيش حينها في فنلندا، فهددني بأنه سيأخذ مني الأبناء في حال لم أغادر العراق لأنني أعرضهم للخطر.
والجهة التي خطفتني أيضا تواصلت معي عدة مرات لتعلمني بأنني مراقبة. كل هذه الأمور دفعتني للمغادرة بعد شهرين من الاختطاف.
عندما غادرت العراق، ظننت أنها ستكون رحلة مؤقتة وأنني سأعود بعد أن تهدأ الأمور. في ذلك الوقت، حصلت على تأشيرة دخول من السفارة الفرنسية ووصلت فرنسا مع ولداي، يوسف (16) ويونس (13) في صيف 2017. عندما تقدمت بطلب لجوء.
كيف كانت تجربة اللجوء في فرنسا؟
لدى وصولي باريس اصطدمت بالواقع، حيث لم يكن لدي سكن أعيش فيه أنا وأولادي، ووجدت نفسي وحيدة في بلد لا أعرف لغته ولا نظام الحياة فيه.
تواصل معي أقاربي من هولندا وأقنعوني بالذهاب إليهم حيث يمكنهم مساعدتي. وصلت إلى هولندا وقدمت أوراق اللجوء ومكثت أنا وأولادي في مخيم للاجئين. ولكن بعد شهرين تم رفض طلبي على قاعدة اتفاقية دبلن، إذ كان عليّ تقديم اللجوء في البلد التي منحتني تأشيرة الدخول إليها، أي فرنسا. فعدنا إلى فرنسا، وتقدمت بطلب اللجوء في مدينة بوردو جنوب غرب البلاد. كان ذلك بداية خريف عام 2017، وقد بدأت درجات الحرارة بالانخفاض وأذكر جيدا أننا لم نكن نملك الملابس المناسبة. لم يساعدنا أحد في توفير السكن وقالوا أن هذه مسألة عليّ الاهتمام بها بمفردي.
"كانت رحلة قاسية ومهينة، على مدى عامين اضطررت أنا وأولادي للانتقال ست مرات في خمس مدن مختلفة".
في تلك المرحلة، أذكر جيدًا اتصالي بشبكة ماري كولفن للصحفيات والتي كانت قد رافقت قضية اختطافي وقدمت الدعم لي منذ اليوم الأول. قامت الشبكة حينها بتقديم دعم مادي ساعدني على تأجير فندق لمدة ثلاثة أسابيع، وفي هذه الأثناء حصلت على الدعم من منظمات تدعم اللاجئين في فرنسا، وهم قاموا بتأمين سكن لنا في مخيم للاجئين في مدينة آجان القريبة من بوردو.
تمكنت من تسجيل أولادي في مدرسة، لكنهم كانوا وحيدين بدون أصدقاء، ولم يكن هناك من يقدم لنا المساعدة أو الدعم في هذه المدينة النائية. في ذلك الوقت، صارت تصلني اتصالات مزعجة من زوجي السابق والذي كان يسكن حينها في فنلندا. طلب القدوم لرؤية الأولاد فأعطيته عنواننا في المدينة. بدأ يرسل رسائل لإدارة السكن المؤقت الذي اقطنه يتهمني فيها بالهروب واخفاء الأولاد مما أوقعني في مشاكل وتحقيقات مع الادارة. ثم جاء إلى مدينتنا وبدأ بملاحقتي وملاحقة الأولاد حيث كان يذهب إلى مدرستهم وفي مرة من المرات حاول اقتحام غرفتي فهربت من الشباك. كنت مرعوبة جدًا فلجأت إلى المسؤولين وقمنا بتقديم بلاغ للشرطة. لم ينجح أي شيء بمنعه من مضايقتنا فصدر قرار بترحيلنا إلى مدينة أخرى حفاظا على سلامتنا.
انتقلنا إلى مدينة بعيدة جدا ونائية، وفي هذه الفترة، وصلني خبر وفاة والدتي. كل شيء تزامن مع بعضه. يأتي خبر الوفاة وأنا في بيت مهجور وبعيدة عن وطني، أمامي أولادي بدون مدرسة وزوجي السابق يطاردني. كنت على حافة الانهيار.
كانت رحلة قاسية ومهينة، على مدى عامين اضطررت أنا وأولادي للانتقال ست مرات في خمس مدن مختلفة.
كيف أثر كل هذا على أولادك؟
كان همي الأول والأخير أن لا يتأثر أولادي بهذه الأزمة وأن يدخلوا المدارس لاستكمال تعليمهم وليندمجوا في الحياة الاجتماعية، لكن رحلتنا القاسية وكل الظروف الصعبة التي مررنا بها كان لا بد لها أن تؤثر عليهم. عندما وصلنا إلى مانيول سورسيز نجحت في إدخالهم المدرسة، لكنهم في تلك المرحلة عانوا من ضائقة نفسية، كونهم لا يجيدون اللغة، ويشعرون بالعزلة بدون أصدقاء. استنجدت بالأصدقاء العراقيين في فرنسا لمساعدتنا، ولكن لم يأتِ أحد لزيارتنا لأننا في مكان بعيد.
كنت اخرج أبحث عن محلات عراقية لشراء الطعام العراقي أو العربي كي لا يشعروا بالغربة، وتواصلت مع عائلات وطلبت منهم زيارتنا للتواصل مع أولادي. ابني الأصغر عانى كثيرًا وكان يرفض الذهاب إلى المدرسة. لم يكن هناك اهتمام خاص من الفرنسيين، فلم يقدموا لنا معلومات أو نصائح حول برامج أو أنشطة اجتماعية أو رياضية لأولادي. كنا نمكث في البيت خلال العطل ولا نعرف أين نذهب، وكأن ما نحتاجه هو الطعام والنوم فقط!
الآن، أستطيع القول أن رحلة المعاناة انتهت، وصرنا نعيش نوعًا من الاستقرار.
هل تغير شيء بعد حصولكم على الإقامة؟
عندما حصلنا على الإقامة كانت مشاعري مختلطة ما بين الاطمئنان والاستقرار من جهة، والقلق بسبب الظروف الصعبة التي نمر بها من جهة أخرى. عندها طلبت بإلحاح نقلي إلى مدينة كبيرة فيها حياة وحركة وجالية عراقية، وفيها مدارس جيدة، وفعلا، مرة أخرى، تم نقلنا إلى مدينة شاتورو CHateauroux جنوب باريس، وفي سبتمبر أيلول عام 2018 انتقلنا أخيرا إلى بيتنا الجديد والذي لا زلنا نقطنه حتى الآن.
دخل أولادي المدرسة وبدأوا بتعلم اللغة والاندماج وتحسنت حالتهم النفسية كثيرا. أما أنا، فانشغلت لعام ونصف تقريبا بمتابعة الأمور البيروقراطية التي تمتاز بها فرنسا، والذهاب إلى مواعيد كثيرة تكاد تكون يومية.
الآن، أستطيع القول أن رحلة المعاناة انتهت، وصرنا نعيش نوعًا من الاستقرار. أولادي يجيدون اللغة الفرنسية ومتفوقين في المدرسة. ابني الأكبر يحصل دائما على أعلى الدرجات وسيدخل السنة القادمة إلى الجامعة، ابني الأصغر متفوق أيضًا ولديه أصدقاء وعلاقاته الاجتماعية جيدة.
أنا فخورة جدا بهم. لقد عشنا نحن الثلاثة كأصدقاء، ساندنا بعضنا البعض وخرجنا من المحنة جيدين وأقوياء. وهم الآن يحثونني على العودة للصحافة.
ماذا فعلا بخصوص الصحافة، هل لديك رؤية حول عودتك إلى الصحافة قريبًا؟
أنا أيضا لم يكن الأمر سهلًا عليّ، فبعد أن كنت صحفية كبيرة واسما لامعا في العراق، فقدتُ هنا كل رصيدي المهني وأصبحت مضطرة للبدء من الصفر. حاولت طيلة هذه السنوات أن لا أنقطع عن الصحافة أو الكتابة أو متابعة شؤون العراق، وانخرطت في حملات تضامن مع العراقيين المنتفضين في الشوارع خلال الثورة الشعبية الأخيرة. قمت بنشر عدة مواد لعدة مواقع، وعملت لفترة وجيزة مع موقع الجزيرة نت، ولكنهم قاموا بتسريح عدد من العاملين وكنت أنا من ضمنهم.
في الفترة الأخيرة كرست وقتي الكامل لدراسة اللغة الفرنسية لتحسين فرصي في الحصول على عمل ولكي أعزز تواصلي مع الناس. أقوم حاليًا بالبحث عن عمل، ليس بالضرورة في مجال الصحافة ولكن شيئا يتناسب مع قدراتي لكي أتمكن في رفع دخلنا وتوفير حياة كريمة لي ولأولادي، لأن المساعدات التي نحصل عليها من الدولة ليست كافية.
لكن هدفي الأساسي سيبقى العودة إلى الصحافة.
أعتبر كل ما سبق مرحلة تأسيس. كنت بحاجة لإيجاد أرض صلبة للوقوف عليها، وأستطيع القول أنني أنجزت ذلك. في المرحلة القادمة لدي عدة أهداف: تخصيص وقت يومي لتطوير مهاراتي الصحفية وخاصة الصحافة الرقمية ومتعددة الوسائط؛ الكتابة المستمرة ومن خلالها مواصلة دعم قضايا وطني، والانتهاء من كتابي الأول عن الحريات في العراق والذي كنت قد توقفت عن كتابته بسبب ظروفي.
"لم تغادرني فكرة العودة يوما واحدا، ولكن الأصدقاء يقولون إن الوقت غير مناسب بعد.
هل يجعل ابتعادك عن العراق مسألة الكتابة عنه أسهل؟
من ناحية، لم يعد بإمكاني التنقل بين الناس والتواجد في الشارع وجسّ نبضه، وأحاول التعويض عن ذلك من خلال المحادثات الدائمة مع الأصدقاء والصحفيين هناك. أحاول قراءة كل شيء ينشر، وأتابع كل التفاصيل. ولكنني من ناحية أخرى أشعر بالأمان هنا وهذا يساعدني على تغطية الكثير من القصص التي لم أكن لأتمكن من تغطيتها لو أنني كنت لا زلت هناك.
لا تزال تصلني الكثير من القصص والوثائق والمعلومات، وأحاول تمريرها لزملائي وأساهم معهم في إعدادها من وراء الكواليس. ولا يزال يتواصل معي عراقيون وعراقيات لإطلاعي على معاناتهم الشخصية ولا زلت أستغل علاقاتي لدعمهم. لذلك يهمني العودة للصحافة في أقرب وقت لكي أتمكن من الكتابة عن جميع هذه القصص والحفاظ على شبكة علاقاتي وسمعتي كصحفية جادّة. كما أرى أيضا أن هناك قصص كثيرة في فرنسا تستحق الكتابة عنها، مثل قضايا الهجرة والنزوح.
كيف تقيمين الوضع في العراق اليوم، وهل تفكرين في العودة؟
لم تغادرني فكرة العودة يوما واحدا، ولكن الأصدقاء يقولون إن الوقت غير مناسب بعد. الكثير من الزملاء يخبرونني أن ما حصل معي من تضامن واسع ودعم لن يتكرر، فبعد اختطافي تكررت حالات الاختطاف لصحفيين ونشطاء بسبب انتقاداتهم للميليشيات المسلحة، وبالتالي خفت وتيرة التضامن معهم، إلى درجة أصبح فيها خبر الاختطاف يمر مرور الكرام على الناس ووسائل الإعلام فقد أصبح الأمر شبه طبيعي. المؤسسات الأمنية صامتة ولا تتدخل، ولا يزال بعض الزملاء رهن الاختطاف منذ عامين. قمنا بحملات تضامن وإسناد لكنها لم تكن كافية لإحداث تغيير.
هناك شعب أعزل أمام سطوة العصابات المسلحة غير القانونية التي أصبح سيفها مسلطا ليس فقط على الشعب بل أيضا على أجهزة الدولة. لهذا أنا لست نادمة على المغادرة، لأني على الأقل قادرة على الكتابة وتسليط الضوء على قضية اختطاف الصحفيين.
كيف ترين الدعم الذي قدمته لك شبكة ماري كولفن للصحفيات؟
انضممت إلى الشبكة قبل عام من الاختطاف وخلال الاختطاف حصلت على دعم كبير من الشبكة، عرفت به بعد إطلاق سراحي، وبعدها لم يتوقف الاهتمام بي والسؤال عني. لدى مغادرتي العراق، كانت الشبكة هي الداعم الأول على عدة مستويات، منها الدعم المادي والدعم النفسي، وتشبيكي مع منظمات أخرى قامت بدعمي أيضًا، بعضهم لا يزال يتواصل معي حتى الآن. كما واعتبر التواصل الالكتروني الدائم حول فرص العمل والتمويل والتدريب التي توفرها الشبكة للعضوات هو دعم مفيد وهام، يشعرني بأني جزء من مجتمع وليس لوحدي.
الصور:
*الصورة الرئيسية: أفراح القيسي في بيتها في شاتورو، فرنسا. تصوير: نبيلة الحداد/ وكالة هانز لوكاس.
** أفراح القيسي مع أبنائها في شارع سانت لوكا، شاتورو، فرنسا. تصوير: عبدالله العابود.
*** أفراح القيسي في الحافلة، شاتورو، فرنسا. تصوير: نبيلة الحداد/ وكالة هانز لوكاس.