منذ أن بدأت مشوارها الصحفي عام 2009، وهدى بارود تكتب عن كل ما يمس حقوق المرأة في قطاع غزة. من الضغوطات الاجتماعية التي تعيق حرية النساء في الخروج إلى المقاهي أو التدخين، إلى ماساة النساء اللواتي يهجرهن أزواجهن دون طلاق رسمي، واغتصاب المحارم اللواتي لا ينصفهن القضاء. لم تعد هدى تتفاجأ من حجم الانتهاكات التي تواجه النساء، إلى أن أدركت أن مادةً في القانون الجنائي يتم استخدامها لتبرئة المجرمين إلى حدٍ لم تكن تتوقعه.
بعد فترة من البحث، نشرت تقريرا عن سوء استغلال هذه المادة باللغتين العربية والإنجليزية. كان هذا آخر تقرير لهدى قبل أن تترك قطاع غزة مع أبنائها لتبدأ حياة جديدة في أوروبا.
المادة 18
أنا أكتب عن العنف ضد النساء منذ وقت طويل، ولم يخيل لي أبدا أن المادة تستغل بهذا الشكل
في عام 2020، تواصلت مع هدى زميلتُها ريما محمود، بعد أن حصلت على منحة لإنتاج تقرير عن العنف ضد النساء. "أرادت ريما أن أساعدها في الكتابة بينما تتولى هي تصوير وإخراج تقرير فيديو،" تقول هدى من مسكنها الجديد في بلجيكا. "لم أكن مقتنعة في البداية. قلت لها إن الموضوع تم الحديث عنه كثيرا وسيكون علينا العثور على زاوية جديدة."
لم يستغرق البحث وقتا طويلا لتكتشف هدى أن نساء كثيرات يقتلن لنزاعات أسرية أو بسبب الميراث أو أمور أخرى لا تتعلق بأخلاقهن، لكن التحقيق أو المحاكمة في كل من هذه القضايا يصنّفها على أنها قضية أخلاقية تتعلق بسوء سلوك الضحايا، فيفلت الجناة من العقاب. كل هذا استنادا إلى المادة 18 من قانون العقوبات الفلسطيني لعام 36. وتقرّ هدى بأنها صدمت من مدى إساءة استغلال هذه المادة من قبل الادعاء العام والقضاء. "هذه المادة كانت مفاجئة بالنسبة لي، فأنا أكتب عن العنف ضد النساء منذ وقت طويل، وفي كل مرة كنت أمر على هذه المادة ولم يخيل لي أبدا أنها تستغل بهذا الشكل."
تعطي المادة 18 ما يسمى ب"قبول المعذرة" أي عذرا مخففا لمن يرتكب جريمة، بما فيها جريمة القتل، إذا كانت نية الجاني هي "درء نتائج لم يكن في الوسع اجتنابها بغير ذلك،" وإذا كانت النتائج التي أراد اجتنابها تلحق ضررا بليغا "بشرفه أو ماله أو بنفس أو شرف أشخاص آخرين ممن هو ملزم بحمايتهم."
سواء كانت المشكلة في صياغة المادة أم في التطبيق، فإن النتيجة هي أن نساء كثيرات قُتلن في غزة بدون وجه حق. عثرت هدى على قضية لشابة تبيّن أن والدها قتلها برصاصة في الرأس لأنه ظنّ أنها التقت بوالداتها، والتي كان قد طلّقها منذ زمن ومنع ابنته من الحديث إليها. ادعى الأب أنه قتل ابنته لأنها لم تكن عذراء، ومع أن الطب الشرعي أثبت عكس ذلك، إلا أن القضاء حكم لصالحه. الدفاع عن الشرف هي ذات الحجة التي استند إليها رجل شنق زوجته، قائلا إنها كانت تتحدث مع رجال آخرين، مع أنه لم يتمكن من إثبات ادعائه، وبالرغم من أن كل الدلائل تشير إلى أنه كان يعنّف زوجته باستمرار.
القضايا التي تتحدث هدى عنها في تقريرها لا تقل بشاعتها عن بعضها البعض، لكن أكثرها غرابة من ناحية تصرف القضاء هي قضية شاب احتجز أخته غير الشقيقة وعذبها ثم قتلها. استند في حجة الدفاع عن الشرف إلى فيديو قديم منذ أكثر من عشرة أعوام لشقيقته وهي ترقص مع زوجها، ولكن قبل أن يتم زواجهما رسميا. بحسب المقال، فإن القضاء اعتبر الفيديو دليلا على صدق ادعاء القاتل بأنها لا بد وأنها مستمرة في ارتكاب تصرفات غير أخلاقية.
لم أشعر أن والد ضحية كان مكلوما على مقتل ابنته، وإنما كان خائفا على سمعة الأسرة
ثقافة الصمت
على الرغم من قضايا القتل هي قضايا حق عام، إلا أن النيابة والقضاء حالا دون حصول هدى وريما على الوثائق المطلوبة. "حصلنا على المعلومات من محاميات من مركز شؤون المرأة. وكانت هناك قضايا أخرى معروفة في ذلك الوقت، وذلك سهّل علينا الوصول إلى أهالي الضحايا،" تقول هدى. "ولكن الأهالي، وعلى الرغم من أن القضايا معروفة، لم يرغبوا بذكر أسمائهم وطلبوا منّا ضمانات كثيرة قبل أن يوافقوا على الحديث معنا.
في إحدى القضايا وافق والد إحدى الضحايا على الحديث مع هدى، ولكن عمّها تدخّل لإيقاف الأمر. "ذهبنا إلى منزل والد الفتاة مرتين لإجراء المقابلة. وفي المرة الثانية، فوجئنا بعمّها يدخل البيت ويطردنا. أدركنا فيما بعد أن العم هو أيضا نقيب في الشرطة، وفي اليوم الثالث اتصلت بنا الأسرة وهددتنا بالملاحقة القانونية إذا نشرنا المقابلة." اضطرت هدى في النهاية إلى الاستناد إلى تقارير أخرى كانت قد نشرت عن هذه القضية.
"بصراحة لم أشعر أن والد ضحية كان مكلوما على مقتل ابنته، وإنما كان خائفا على سمعة الأسرة لأن زوجها (أي القاتل) ادعى بأنها كانت تجلب رجالا إلى البيت. الحرج الاجتماعي كان أكبر بكثير من الحزن عليها."
كانت هدى حريصة للغاية في صياغة المقال إلى حد ربما أثّر على قوته. "لم أتحدث عن تفاصيل الجرائم المذكورة في التقرير، وإنما ركزت على ما بعد الجريمة، وكنت حريصة جدا بأن لا أدع مجالا للحكومة أن تدعي أن في التقرير ما يخدش الحياء." ولهذا الحرص مبرراته، ففي عام 2017، كتبت هدى تقريرا عن النساء اللواتي اغتصبهن أفراد من أسرهن وكن مجبرات على العيش معهم تحت سقف واحد. التقارير كانت فيه تفاصيل صادمة، من بينها أن بعض الأسر دفعت بناتها، ضحايا الاغتصاب، إلى الانتحار تفاديا للفضيحة. مهما كان الحرص في الصياغة آنذاك فإن الموضوع بحد ذاته دفع النيابة العامة إلى استدعاء هدى للتحقيق. ولم تتراجع النيابة عن قرارها إلا بعد تدخل بعض الفصائل السياسية.
نشر التقرير بينما كانت هناك خلافات سياسية في غزة، فلم ينتبه كثيرون إليه، وهذا سبب لي إحباطا كبيرا
حياة جديدة
مع أن تقريرها الأخير كان واحدا من أهم القضايا التي كتبت عنها، إلا أنه لم يحدث صدى بالقدر الذي كانت تتمنّأه. "تقاريري السابقة كانت تثير ردود أفعال وكانت محل نقاش على وسائل التواصل الاجتماعي. ولكن هذا التقرير نشر بينما كانت هناك خلافات سياسية في غزة، فلم ينتبه كثيرون إليه، وهذا سبب لي إحباطا كبيرا."
في نهاية عام 2020، غادرت هدى قطاع غزة مع أبنائها ليلتئم شملهم مع زوجها، الصحفي محمد عثمان، بعد فراق إجباري زاد عن أربعة أعوام. كان محمد قد اضطر لمغادرة القطاع بعد أن تعرض لضغوطات من قبل المسؤولين في حكومة حماس بسبب عمله الصحفي، واضطر للانتقال من غزة إلى مصر ثم الإكوادور، قبل أن يستقر أخيرا في بلجيكا.
لا تزال هدى تعمل في التحرير مع مجلة الغيداء لشؤون المرأة، ولكنها تنتظر أن تستقر أمورها في بلجيكا لترى كيف يمكنها استئناف مهنة الصحافة التي تحب. سألتها إن كانت تشتاق إلى غزة، فصمتت قليلا…
"أشتاق إلى والدتي وأختي. أي مكان على وجه الأرض أعثر على كرامتي فيه سيكون هو المكان الذي سأعيش فيه. وغزة ليست ذلك المكان."
الصور: هدى بارود، الصحفية والعضوة في شبكة ماري كولفن للصحفيات، مع الصحفية ريما محمود
نساء مشاركات في الحملة ضد العنف على النساء في غزة عام 2019. تصوير أشرف عمرة Apa Images