hello world!

 

في الجزء الثالث من هذه السلسلة الخاصة عن الصحة النفسية، يقول الدكتور خالد ناصر إن على الصحفيات أن لا ينتظرن انتهاء الأزمة أو الحدث الصادم، كالحرب، للالتفاف إلى صحتهن النفسية. عندما تبدو المآسي والحوادث كأنها بلا نهاية، فإن على الصحفيات اتباع ممارسات معينة ليتمكنّ من مواجهة الوضع.

 

الصحفيات المحليات لسن عالقاتٍ جسديًا في الميدان فحسب، ولكنهن أيضًا مرتبطات به عاطفياً. فالألم الذي يشهدونه ويسجلونه كل يوم هو ألمهن أيضّا.

"كريستينا" مراسلة أمريكية لصحيفة معروفة. يرسلها رئيس التحرير إلى سوريا لتغطية الأحداث الأخيرة في شمال البلاد. 

على مدى شهرين، تعمل كريستينا مع منى، صحفية محلية تعمل كمترجمة ومنسقة (فكسر) أيضا، وتصبحان شاهدتين على أهوال الحرب وقصص معاناة تفوق الخيال. بعدها، تعود كريستينا إلى الولايات المتحدة. لا يمكنها أن تنسى صور الحرب الفظيعة، وغالبا ما تستيقظ في الليل، متصببا منها العرق. تقرر أخيرا الحصول على علاج نفسي، وتبدأ تدريجيا بالتحسن.

أما منى، فتستقبل مراسلة جديدة من بريطانيا. تعمل معها كما كانت تعمل مع كريستينا، وتواجه المخاطر نفسها في كل يوم. وعلى عكس نظيراتها الأجانب، فإن منى لا تستطيع المغادرة ولا يمكنها أن تأخذ مسافة فاصلة عن ما يحدث. ويصبح الخوف جزءا من حياتها.

المراسلات و المصورات الصحفيات الأجانب اللواتي يتم إرسالهن لتغطية أزمةٍ ما قد يتعافين بشكلٍ أسرع عندما يبتعدن عن الميدان بعد انتهاء المهمة. أما الصحفيات المحليات، فهن لسن عالقاتٍ جسديًا في الميدان فحسب، ولكنهن أيضًا مرتبطات به عاطفياً. فالألم الذي يشهدونه ويسجلونه كل يوم هو ألمهن أيضّا.

لذلك، فإن التصنيفات العالمية : "اضطراب ما بعد الصدمة" (PTSD) و"الصدمة غير المباشرة" (VT) قد لا تفسر التجربة الحقيقية للصحفيات المحليات.

"اضطراب ما بعد الصدمة" (PTSD) هو الإجهاد الانفعالي والفسيولوجي الحاد الذي يشعر به الفرد بعد تعرضه لحدثٍ مؤلم أو سلسلةٍ من الأحداث المؤلمة. أما "الصدمة غير المباشرة" (VT) فهي الانفعالات والتوترات التي تنجم عن مشاهدة مستمرة لأحداث صادمة تحدث للآخرين. وفي كلتا الحالتين، فإنّ الأعراض تتطور بعد الحدث.

خلال عملي مع الصحفيات والصحفيين العرب، لاحظت أن إرشادات وممارسات الصحة النفسية تتعامل بشكل رئيسي إما مع كيفية إدارة المخاطر السابقة، أو المخاطر المستقبلية المتوقعة. ولكن كيف يمكنكِ التعامل مع الأخطار التي تحدث الآن في حياتك؟

عليكِ أن "تخدعي" ذهنك لكي يشعر بالأمان، فجسدك يشعر ويتفاعل بناءً على كيفية إدراككِ للواقع، بدلاً من الواقع نفسه

من المهم هنا تعريف كلمة "الأمان". من منظور الصحة النفسية، يجب أن تتضمن هذه الكلمة مجموعة محددة من المفاهيم: 

  •  يجب أن لا يكون جسدك عرضة للأذى. هذا هو الشرط الأساسي لأي شعور بالأمان.

  •  يجب أن تشعري قادرة على توقّع مسار يومك. بمعنى آخر، أنتِ قادرة على التخطيط ليومكِ وتتوقعين كيف سيمضي. على سبيل المثال، العاملون في البنوك أو المصارف يتوقعون أن يعملوا من التاسعة إلى الخامسة، ويتوقعون إجراء معاملاتٍ مصرفية ومالية.

  •  يجب أن تشعري أنه يمكنك السيطرة على حياتك اليومية. هذه النقطة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالقدرة على التوقع، وتعني أنه يمكنك أن تنظمي يومك وأن لا تتوقعي أي تغييرات كبيرة خارجة تماما عن نطاق سيطرتك. على سبيل المثال، إذا كانت صحفية معارضة  تعمل في بلد يحكمه نظام مستبد، فإنها تواجه احتمال أن يقتحم مسؤولون المكتب وأن يعتقلوها هي و/أو زملائها. وقد تضطر أيضًا بالإكراه إلى تعديل أو حذف أجزاءٍ من مقالها رغم أهميتها.

إذًا، ماذا يمكنك أن تفعلي عندما تضطرين إلى محاربة التوتر و/ أو الصدمة في بيئة غير آمنة؟ أوصي بنهجين للتعامل مع هذه الظروف. سأسميهم "العيش في حياةٍ مزدوجة"، و"تفكيك المفاهيم عبر الزمن". في كلتا الطريقتين، عليكِ أن "تخدعي" ذهنك لكي يشعر بالأمان، فجسدك يشعر ويتفاعل بناءً على كيفية إدراككِ للواقع، بدلاً من الواقع نفسه.

 

"العيش في حياةٍ مزدوجة"

هذا المفهوم يعني خلق تمييز من الذهن ما بين المناطق الخطرة والمناطق الآمنة، بناءً على تعريف الأمان أعلاه.

  • أولاً وقبل كل شيء، حددي المخاطر واتخذي تدابير السلامة االلازمة، بما في ذلك استخدام كلمات سر آمنة، والتأكد من أن أصدقاء موثوقين يعرفون موقعك، استخدام قنوات اتصال آمنة، وغيرها.

  • حددي "ملجأً" آمنا تشعرين فيه ببعض من القدرة على التوقع والتحكم. وكلما شعرتِ بانعدام الأمان، تخيلي أنك في هذا المكان (أو "الملجأ"). لنعد إلى مثال الصحفية المعارضة التي تعمل تحت نظام مستبد. قد لا تكون آمنة في العمل أو في الشارع. حتى أنّ عنوان منزلها معروف. ولكن عندما تذهب إلى منزل صديقتها في الجبل وتغلق الباب، فإنها تشعر بالأمان والسعادة. فلتذهب إلى هناك في نهاية كل أسبوع، أو تتخيل أنها هناك. وتصبح هذه عادة يمكن أن تشعرها بالأمان، حتى ولو كانت غير واقعية.

أن تكون بيئتك الصغيرة (القارب) منظمة ومرتبة، بغض النظر عن الرياح، سيكون لها تأثير إيجابي على شعورك

دائماً ما أستخدم مثال "القارب في مهب الرياح" مع الصحفيات لشرح هذه النقطة. لنفترض أنك على متن قارب في منتصف البحر، وفي منتصف عاصفة شديدة. لا يمكنك التحكم  بالرياح، ولا يمكنك أن تمنعي موتك. ولكن حاولي قدر المستطاع أن ترتبي الأشياء داخل قاربك، وامنحي عقلك إحساسًا ولو خاطئًا للتوقع والتحكم. فأن تكون بيئتك الصغيرة (القارب) منظمة ومرتبة، بغض النظر عن الرياح، سيكون لها تأثير إيجابي على شعورك.

 

"تفكيك المفاهيم عبر الزمن" 

هذا المفهوم يشير إلى الجهد الذي يجب أن تمارسيه لتغيير نظرتك إلى الواقع. عندما تواجهين سلسلة مواقف خطيرة، واحدة تلو الأخرى، فإن عقلك يميل  إلى الاعتقاد بأن العالم بأكمله غير آمن. هذا ميل طبيعي للعقل، ويحدث حتى عندما تكون المشاهد الخطرة الوحيدة التي تواجهينها هي تلك التي تشاهدينها على التلفاز. لذا:

  • يجب عليك "التحدث" إلى عقلك. أخبريه حرفيا أنه على الرغم من أن بعض الأماكن والأوقات غير آمنة، إلا أن هذه الحقيقة ينبغي أن لا تعمّم على كل الأماكن وكل الأوقات.

  • اجلسي مع نفسك وفكري بأماكنٍ وأشياء تجعلك تشعرين بانعدام الأمان، ومن ثم فكري بأماكن وأشياء أخرى تجعلك تشعرين بالأمان. ميّزي بين الاثنين، وطوّري وعيك بالفرق بينهما وتصرفي بناءً على ذلك.

هذه العملية ستقلل من حجم الخطر في ذهنك وستساعده على التأقلم بشكل أفضل. عندما سيعرف ذهنك متى يكون في وضعية تأهب ومتى يسترخي. ستتحكمين وتتفادين المخاطر الحقيقية عندما تواجهينها، وستجدين السلام في الأوقات الأخرى.

الصورة: الصحفية الإيطالية أندريا ريستك، في حلب، سوريا. المصور: سيكارود باولو. 

 

إذا كانت لديكن أية أسئلة أو تعليقات على ما ذكره الدكتور خالد ناصر، الرجاء كتابتها في خانة التعليقات وسنسعى للحصول على إجابات منه في أسرع وقت ممكن