نادرا ما كانت عائشة الجيار، الصحفية المصرية الحائزة على جوائز، تواجه صعوبات في إقناع رؤساء التحرير في الكويت بالكتابة عن قضايا حساسة، كالفساد أو تجارة البشر. ولكن عندما قررت إجراء تحقيق عن القيود الأمنية المفروضة على آلاف المدنيين المحرومين من الجنسية (أو "البدون")، اصطدمت بواحد من أكبر الخطوط الحمراء في الإعلام الكويتي.
استغرق إعداد التحقيق سنتين وقد نشر على موقع أريج وInvestigative Journal.
ليست هذه المرة الأولى التي أجري فيها تحقيقا عن فئة البدون. ففي عام 2014 كنت أعددت تقريرا لمؤسسة الفنار للإعلام عن "كتاتيب البدون في الكويت". كنت قد التقيت بطفل عمره 6 سنوات حرم من الدخول للمدرسة لأنه لا يملك أي أوراق ثبوتية ولا شهادة ميلاد. جلست مع والده جلسة مطولة لم أنقل جميع تفاصيلها وبياناتها في التقرير حينها، لكنها علقت في ذاكرتي، ذلك لأن الأب حرم هو وأشقائه وشقيقاته وأبنائهم من أي أوراق ثبوتية منذ تاريخ الغزو العراقي للكويت عام 1990.
لم أصادف يوما رفضاً لأي شيء أكتبه عن الحريات في جميع الصحف الكبرى التي عملت فيها، لكن قضية البدون كانت دائما خطا أحمر.
أكثر من ثلاثين عاما مضت والكويت يفرض قيودا أمنية على آلاف "البدون" وعلى أبنائهم وأحفادهم، لكن الحديث عن هذه القيود حتى الآن لا يزال شبه معدوم. لذلك قررت في عام 2018 أن أحقق في الموضوع.
تعتيم إعلامي
تحولت كلمة "بدون" في الأعوام الأخيرة إلى "هاشتاج" على وسائل التواصل الاجتماعي: تغريدات عن انتحار شباب من فئة البدون، وأخرى عن حرمان أطفالهم من التعليم. ومن حين إلى آخر تنشر منظمات مثل هيومان رايتس واتش تقارير عنهم، كهذا التقرير الذي صدر صيف عام 2019 عن الإضراب الذي أعلنه معتقلون من البدون احتجاجا على حرمانهم من حقوقهم المدنية.
عشت وعملت في الكويت حوالي 25 عاماً، وأرى أن حرية الصحافة فيها أفضل نسبياً من أغلب الدول العربية - عدا تونس ولبنان. لم أصادف يوما رفضاً لأي شيء أكتبه عن الحريات في جميع الصحف الكبرى التي عملت فيها، سواء فيما يتعلق بحقوق المرأة أو تجارة البشر أوالفساد. لكن قضية البدون كانت دائما خطا أحمر. المثير للحزن بالنسبة لي هو أن من كانوا يكتبون أو يحررون التقارير الرسمية عن البدون هم من البدون أنفسهم. هم زملاء المهنة ولكنهم مضطرون لاتباع الخط التحريري الرسمي الذي يبرر حرمان البدون من الجنسية الكويتية للحفاظ على وظائفهم.
قيود أمنية
يأتي "البدون" في الكويت من ثلاث خلفيات. هناك العشائر البدوية التي كانت ترتحل بشكل دائم عبر الحدود لما أصبحت اليوم دول الخليج، لكنهم استقروا في الكويت بشكل نهائي قبل الاستقلال، وإلى اليوم لم يحصلوا على جنسية أية دولة. وهناك مواطنون سابقون من بلدان عربية، كالعراق وسوريا والأردن، ممن أتوا إلى الكويت في الستينيات والسبعينيات للعمل في الجيش والشرطة الكويتيين. فضلت الحكومة الكويتية تسجيلهم بصفة البدون كي لا تكشف عن سياسة التجنيد الحساسة سياسياً. والفئة الثالثة هم أفراد ولدوا لأم كويتية وأب من البدون.
زملائي من البدون يدركون مدى اهتمامي بقضيتهم، ولكنهم مع ذلك كانوا يتوجسون مني. كانوا يتساءلون عن سبب اهتمام صحفية مصرية بقضيتهم.
منذ حرب العراق على الكويت عام 1990، ابتدعت المؤسسة الأمنية في الكويت قيود جديدة على البدون، معتبرة أنهم مقيمون غير قانونيين. فبينما كان بإمكانهم في السابق استصدار أوراق رسمية تصنفهم ك"بدون" ولكن تمنحهم حق العيش في الكويت، أصبح الآلاف منهم بموجب هذه القيود ممنوعين من الحصول على أية أوراق. هذا يعني أنهم غير موجودين في سجلات الدولة وبالتالي فهم وأبناؤهم محرومون من أبسط الحقوق الإنسانية. ويرى المدافعون عن البدون، كالحقوقي محمد العنزي، أن الدولة تحاول إجبارهم على إبراز جنسيات عربية أخرى تزعم أنهم يملكونها، وذلك لإنهاء وجودهم في الكويت.
زملائي من البدون يدركون مدى اهتمامي بقضيتهم، ولكنهم مع ذلك كانوا يتوجسون مني. كانوا يتساءلون عن سبب اهتمام صحفية مصرية بقضيتهم. كنت أرى اليأس في أعينهم، فهم كويتيون في كل شيء اللغة، العادات، الأعراف، الوطن الذي يجمعهم، لكن لا يملكون ما يمنحهم حياة كريمة تساويهم بالمقيمين أو الوافدين في الكويت.
من سينشر التقرير؟
أول مشكلة واجهتها مع رؤساء تحرير المؤسسات الإعلامية التي توجهت إليها بالمقترح كانت أنهم يعتبرون الموضوع قديما، وكان علي أن أشرح لهم أنني لا أكتب عن قضية البدون المعروفة، وإنما عن القيود الأمنية التي جعلت وضعهم أكثر تعقيدا.
التصوير بالفيديو لم يكن خطرا عليهم وحدهم بل عليّ أيضا إذ أنني كنت أواجه خطر الترحيل
عندما حصلت أخير على الموافقة من شبكة أريج، كان علي أن أقنع ضحايا القيود الأمنية بالتحدث أمام الكاميرا. الذهاب إلى أحياء البدون والتصوير بالفيديو لم يكن خطرا عليهم وحدهم بل عليّ أيضا إذ أنني كنت أواجه خطر الترحيل لو تم اكتشاف أمري من قبل السلطات.
أمضيت أشهرا في التواصل مع عشرات الأشخاص، لكنني لم أنجح سوى في إقناع واحد منهم، إذ قال لي إنه لم يعد لديه ما يخسره، وقام بدوره بإقناع شابين اثنين أيضا بالحديث معي. ظللت وجوهم في الفيديو ولم أكشف عن هوياتهم، كما ظللت الرمز الشريطي "الباركود" على هوياتهم لكي لا يتم التعرف عليهم.
سألني الشباب لماذا كنت متفائلة بأن ما سأكتبه يمكن أن يغير شيئاً وقلت لهم إن علينا أن نستمر في الحديث عن قضيتهم وأن التغيير حتما سيأتي. عندما نشر التحقيق على موقع أريج وموقع The Investigative Journal وجدت أن تفاعل القراء للنسخة الإنجليزية كان أكبر. ولكن أهم تفاعل بالنسبة لي كان من أهالي البدون الذين ساهموا في نشر التقرير على نطاق أوسع على وسائل التواصل الاجتماعي. إلى الآن لا يوجد أي رد فعل حكومي على التقرير... ولكن التغيير قد يأتي يوما ما.
*الصورة: مواطن من "البدون" في الجهراء، الكويت، تصوير ياسر الزيات/وكالة الأنباء الفرنسية/صور غيتي.