hello world!

 

في الجزء الأول من سلسلتنا عن الصحة النفسية والعاطفية، يناقش الدكتور خالد ناصر واحدا من أكثر العوامل اشتراكا بين عضواتنا: التمييز ضدهن لأنهن نساء.

ربما لا يمكنك تغيير آراء المحافظين الذين يرون أن مكانكِ ليس في الميدان، ولكن يمكنكِ أن تغيري طريقة تعاملكِ مع الضغوطات الاجتماعية والنفسية بالانتقال من حالة الدفاع عن النفس إلى حالة فرض الذات، خاصة لأن الدفاع المستمر عن النفس قد تكون له آثار سامة على جسمِك.

 

تخيلي هذا السيناريو الافتراضي: صحفية تصعد سلالم البرلمان ، حاملة معها هوية الصحافة. تعمل كصحفية في منصة إخبارية على الإنترنت، وتريد طرح أسئلة على رئيس مجلس النواب حول قانون جديد يحد من حريات الصحافة.

 فجأة، يستوقفها أحد الحراس: "إلى أين أنتِ ذاهبة؟"

يكون الجسم في حالة دفاع شديدة الإثارة، وهذا يؤدي إلى إفراز عدد من الهرمونات، مثل الكورتيزول... وتصبح الهرمونات التي يفرزها الجسم بحد ذاتها خطرًا عليه،

"ماذا أصابه؟" تتساءل الصحفية باستهجان. "أنا صحفية، ولدي موعد مع رئيس المجلس في الساعة العاشرة." يحدّق بها الحارس بازدراء، يعاينها من رأسها إلى أخمص قدميها، ما يجعلها ترتبك. "لماذا أواجه هذا التصرف في كل مرة؟!" تتساءل الصحفية في قرارة نفسها. "لم يكن ليعاملني بهذا الشكل لو كنت رجلاً!"

كم من عضوات الشبكة مرت بمثل هذا الموقف؟ في هذا المقال أريد أن أتطرق للحاجة الدائمة ل "إثبات النفس"، وهو ما شاهدته مرارًا وتكرارًا لدى الصحفيات اللواتي أعمل معهن. من الصعب على النساء اللواتي يعشن في مجتمعات محافظة وذكورية أن يعملن في الصحافة، إذ يتعرضن بشكل مستمر إلى ما يسمى بالتهميش المضاعف (multiple marginalisation) - وهو مفهوم للطبقات المتعددة من الصدمات الاجتماعية التي تعاني منها الأقليات.

تتعرض الصحفيات لأشكالٍ ممنهجة من الصدمات لأنهن إناث يعملن في عالمٍ يسيطر عليه الذكور، وينظر إليهن من خلال عدسة التحيز القائمة على الجنس. ولذا فإن الكثير منهن يجهدن في إثبات أنفسهن باستمرار ويصبحن في حالة دفاعٍ دائمة عن النفس، وهي حالة غير طبيعية تضر بالصحة النفسية. فعلى مستوى الجهاز العصبي، يكون الجسم في حالة دفاع شديدة الإثارة، وهذا يؤدي إلى إفراز عدد من الهرمونات، مثل الكورتيزول، وهي هرمونات متخصصة بتجهيز الجسد للتعامل مع أي نوع من "الخطر" المحتمل. وإذا بقي الإنسان في حالة الدفاع هذه لفترة طويلة، تصبح الهرمونات التي يفرزها الجسم بحد ذاتها خطرًا عليه، لأنها تنتج مستويات عالية من الإجهاد السام (toxic stress)، الذي يؤدي إلى الإثارة والتعب. 

إن التعرض المفرط للكورتيزول يمكن أن يعطل نظام الجسم ويضع الفرد تحت خطر الاضطرابات النفسية الجسدية كعدم انتظام ضربات القلب، واضطرابات الجهاز الهضمي (مثل متلازمة القولون العصبي)، وارتفاع ضغط الدم والتهاب المفاصل، وزيادة الوزن، وعدم انتظام الدورة الشهرية …

العمل الميداني هو جزء أساسي في مهنة الصحافة، ولذا يتم تصويرها للأسف على أنها "عملً للرجال"، ويتم التعامل مع الصحفيات على  أنهن "استثناء". هذه الرؤية تتجسد في عدة أشكال. هناك رؤية تتعرض لها الصحفيات في مختلف أنحاء العالم لأنها تتعلق بالقوالب النمطية الجندرية. فالرجال، سواء من سياسيين أوزملاء في العمل أو مدراء، غالباً ما يعتبرون النساء عاطفيات ورقيقات وضعيفات. وعلى الرغم من أن هذا الأمر غير دقيق (الرجال عاطفيون أيضا ولكنهم لا يعبّرون عن مشاعرهم)، فإن هذا المفهوم الخاطئ يؤدي إلى نوعين من ردود الفعل: مساعٍ للإخضاع أو، في أفضل الأحوال، مساعٍ للحماية. فمن المتوقع، على سبيل المثال، أن لا يرسل صاحب العمل إمرأة لتغطية مشهد يُحتمل أن يكون عنيفًا، أو قد يقوم السياسي بمغازلة الصحافية التي تجري له المقابلة.

قد تلاحظ والدة الصحفية أن المجلى مليء بالأطباق مثلا فتنسبها تلقائيًا إلى الوقت الذي تقضيه ابنتها في الميدان.

 

عندما تتحدى المرأة ردود الفعل هذه وتفرض نفسها كصحفية قوية وجريئة، فإنها تواجه رد فعل مختلف، ولكنه مهين بنفس القدر، إذ يقال عنها أنها "كالرجل". قد تشعر بذلك من خلال الابتسامات والنظرات الساخرة، وقد تسمع هذا الوصف من الرجال بشكل مباشر. ولكن ماذا يعني هذا الوصف؟ هل يعني أن من المفترض أن يكون الرجال وحدهم هم الأقوياء؟ تنطبق هذه الصورة النمطية بشكلٍ خاص على الصحفيات المتخصصات في المجالات المرتبطة تقليديًا بالذكور مثل التصوير أو إدارة التحرير، أو تغطية الحروب.

أما في المنطقة العربية تحديدا، فإن مجتمعاتنا غالبا ما ترى أن المنزل هو المكان "المناسب" للمرأة. وينظر إلى الصحفيات على أنهن يتحدين القاعدة، حتى أنهن يضطررن أحيانا إلى طلب الإذن من آبائهن وأزواجهن لمغادرة المنزل. وبما أن الأعمال المنزلية لا تزال مقتصرة على المرأة، فقد يُنظر إلى الصحفيات اللاتي يمضين وقتًا في الميدان على أنهن مقصرات أو أنانيات. قد يتم انتقادهن من قبل أسرهن بسبب حالة منازلهن أو أطفالهن.  قد تلاحظ والدة الصحفية أن المجلى مليء بالأطباق مثلا فتنسبها تلقائيًا إلى الوقت الذي تقضيه ابنتها في الميدان. وإذا كانت الصحفية مراسلة حربية فقد تتهم بأنها تعرض حياة أطفالها للخطر، وكأنها هي نفسها لا تشعر بالضغط أو الخطر المحدق بهم.

هذه المستويات المتعددة من القوالب النمطية والضغوطات تؤدي إلى الشعور بوطأة التهميش المضاعف لدى الصحفيات العربيات.  ملاحظة صغيرة هنا، ونظرة مهينة هناك، معركة كبيرة هنا، وتعليق غير لائق هناك. يومًا بعد يوم، تطور الصحفيات العربيات آلية دفاع تعمل باستمرار. وكما شرحت ، فإن الجهاز العصبي يتكيف تلقائيًا مع هذه الحالة عن طريق ضخ المزيد من الكورتيزول في الجسم مما يؤدي إلى توتر وقلق ساميّن.

فما هو الحل إذًا؟ المفاهيم الخاطئة لن تزول قريباً. بل سترافقنا ولسوء الحظ لفترة طويلة. لذا يجب على الصحفيات التركيز على ما بداخلهن، فالتغيير يبدأ من الداخل.

المستوى الأول لمحاربة التهميش الثقافي هو "الوعي بالذات". الانتباه لآلية الدفاع عن النفس وتأثيرها المرهق على الجسم هو المفتاح للحد من هذا الضغط. من التمارين الجيدة للوعي بالذات هو أن تلاحظي ردة فعل جسمك أمام سلطة ذكورية، أو عند سماع تعليق من قبل العائلة حول الأعمال المنزلية.

المستوى الثاني لمقاومة التهميش هو تطوير"هويتك الذاتية" وذلك من ناحيتين: ناحية التفكير (المستوى الإدراكي) وناحية الفعل (المستوى السلوكي)

الانتباه لآلية الدفاع عن النفس وتأثيرها المرهق على الجسم هو المفتاح للحد من هذا الضغط. من التمارين الجيدة .. هو أن تلاحظي ردة فعل جسمك أمام سلطة ذكورية، أو عند سماع تعليق من قبل العائلة حول الأعمال المنزلية

 

 

على المستوى الإدراكي:

  •  حددي معتقداتك وقيمك وعيشي بناء عليها. عرّفي معتقداتك وقيمك الراسخة التي تشكل البنية الأساسية للحياة التي تريدينها لنفسك. هذه القيم تساعدك في الحكم على مدى صحة القرارات التي تتخذينها في حياتك. وأحد الامثلة عن القيم هو: "أنا أحترم قدرات كل فرد بغض النظر عن جنسه وأتوقع الاحترام ذاته من قبل الآخرين".

  • مهنيًا، طوّري هوية واضحة لنفسك من حيث الأسلوب والموضوع بشكل يتعدى التحيزات الجندرية. عندما تكونين في حالة دفاع عن النفس، فإنك تفكرين بعبارة نفي: "أنا لست كذلك". أفضل سبيل للتغلب على ذلك هو أن تفكري بعبارات إيجابية: "أنا كذا وكذا". مثلا: "أنا متخصصة في قانون الحقوق المدنية"، "أنا مشهورة بصوري القوية" ، "أنا معروفة بالأسئلة الصعبة التي أطرحها". فكري فيمن تريدين أن تكوني، أو كيف تريدين أن يتم تعريفك، واسعي لتطوير هذا الجانب وتسليط الضوء عليه. بهذه الهوية المتبلورة ستترفعين عن النظرات التقليدية والضغوط والتعليقات المهينة.

  • حددي المجموعات الاجتماعية التي ترغبين أن تنضمي إليها. فالهوية الاجتماعية لها عدة أنواع: وطنية، عرقية، دينية، سياسية، مهنية. العضوية في شبكة ماري كولفن للصحفيات مثلا قد تكون جزءًا من هويتك الاجتماعية. نحن نشعر بالأمان النفسي عادة عندما نلتحق بمجموعة اجتماعية معينة، أو ما يسميه الكاتب البريطاني س. اس. لويس "الحلقة الداخلية". فبدلا من أن تتركي للآخرين المجال لأن يفرضوا عليك عضوية في فئة اجتماعية معينة، اختاري لنفسك عضوية بشكل مستقل بناءً على تفضيلاتك الشخصية والقيم التي تؤمنين بها.

 

على المستوى السلوكي:

  • قول كلمة "لا" هو مهارة تحتاج لبعض الممارسة، لكن عليكِ إدراك حدودك الشخصية وتعلّم هذه المهارة

  •  "اختاري معاركك" تماشيًا مع هويتك الذاتية التي طورتها. حددي الأولويات في مهامك، سواء في المنزل أم في العمل. فيما يتعلق بالمهام الأقل أهمية، تقبّلي حقيقة أنه سيكون هنالك بعض من التقصير. لنقل مثلا أن عليك أن تقدمي مقالًا لرئيس تحريرك، وفي نفس الوقت يحتاج أطفالك للمساعدة في واجباتهم المدرسية، ما هي المعركة التي ستختارينها في هذه الحالة؟

  •  اشرحي استراتيجيتك لأولئك الذين يوبخونك. كوني واضحة وصريحة في شرح أولوياتك لعائلتك، ورئيس التحرير وزملاك.

  • وكّلي بعض المهام لغيرك ولا تشعري بالذنب حيال ذلك. هناك العديد من الضغوط ولا يمكن للفرد أن يتحملها جميعا. فإذا وجدت أنه لديك الكثير من الواجبات والمهام، فإن توكيل بعض مهامك لغيرك قد يكون مفيدًا لك ولمن حولك.

  •  أخيرًا، قولي "لا" لبعض الأمور. قول كلمة "لا" هو مهارة تحتاج لبعض الممارسة، لكن عليكِ إدراك حدودك الشخصية وتعلّم هذه المهارة من أجل بناء علاقات قوية وصحية والحفاظ عليها.

 

ما رأيكِ فيما سبق؟ وهل لديك خبرات وحلول إضافية تودين مشاركتها؟