hello world!

 

هناك أهمية خاصة لتوقيت إطلاق فيلم "حرب خاصة"، والذي يأتي بعد مرور أكثر من شهر على مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي. فهذا الفيلم، الذي يروي حكاية ماري كولفن، مراسلة الصحفية السنداي تايمز والتي لقيت حتفها في حمص في سوريا عام ٢٠١٢، لا يعد تكريما لذكرى ماري كولفن فحسب، وإنما تكريما لمهنة الصحافة أيضا.

الفيلم هو من إخراج "ماثيو هاينمان"، صانع الأفلام الوثائقية، ومن بطولة الممثلة البريطانية روزاموند بايك. لقد قُتلت كولفن، مع الصحفي الفرنسي ريمي أوتشليك، في غارة شنتها الحكومة السورية بينما كانت حمص تحت الحصار. أغلب الفيلم مبني على مقال مطوّل نُشر في مجلة فانيتي فير عام ٢٠١٢، والذي سرد حياة ماري كولفن، بتفاصيل سيرتها المهنية المذهلة وحياتها المضطربة.

تقول ماري في أحد المشاهد: "أكره أن أكون في منطقة حرب، ولكنني أشعر أنه لا بد لي أن يرى ما يحدث بنفسي"

في الدقائق الأولى من الفيلم يدرك المشاهد أن الفيلم ليس عن كولفن فقط، وإنما عن خسائر الحرب أيضا. تتحرك الكاميرا مباشرة إلى لقطة قريبة لإحدى عيني كولفن وهي مضرجة بالدماء، وذلك نتيجة انفجار قنبلة بينما كانت في مهمة صحفية في سريلانكا عام ٢٠٠١. في لقطة مخيفة بعد الانفجار، نرى يدها ترتجف وهي تقترب من وجهها، وقد هالتها صدمة فقدانها البصر في تلك العين. هذه الإصابة هي نقطة البداية في الفيلم، وتظهر بعدها كولفن وهي ترتدي عصابة العين التي اشتهرت بها فيما بعد.

لكن الفيلم لا يتبع أسلوب هوليوود المعتاد في تصوير العنف، فما نشاهده في الفيلم هي المواقف التي كانت كولفن شاهدا عليها، والتجارب التي مرت بها لكي ترسل تقاريرها.

 

بلدان مختلفة ومعاناة واحدة

يجول الفيلم بسرعة عبر المهام الصحفية التي قامت بها كولفن: من رحتلها في سريلانكا مع متمردي التاميل، إلى البحث والكشف عن المقابر الجماعية في العراق، ثم تهربها من المرافقين من الجيش الأمريكي في أفغانستان، وهروبها من إطلاق النيران الكثيفة في مصراتة في ليبيا، وأخيرا وصولها عبر الأنفاق إلى مدينة حمص، والتي كانت تحولت آنذاك إلى "مدينة باردة، ومدنيون يتضورون جوعا". تتابع المشاهد في الفيلم من منطقة حرب إلى أخرى كان مشوشا أحيانا، ولكن يبدو أن هذا الأسلوب كان متعمدا من المخرج للتعبير عن أمر جوهري في طريقة عمل كولفن: فمع أن الأماكن كانت تتغير دائما، إلا أن المعاناة الإنسانية وإصرارها على قول الحقيقة بقي كما هو.

في أحد المشاهد تقول: "أكره أن أكون في منطقة حرب، ولكنني أشعر أنه لا بد لي أن يرى ما يحدث بنفسي"... هذه العبارة يتردد صداها عبر الفيلم.

تدور أحداث فيلم "حرب خاصة" في العقد الأخير من حياتها، ويبرز الفيلم مسألتين متناقضتين في شخصية كولفن: الأولى هي مثاليتها ورغبتها الجامحة في الكشف عن أسوأ ما في الإنسانية وإبرازها للعالم، والثانية، وفقا للفيلم، هي ميلها المتزايد للسخرية من ما يجري حولها. ويعرض المخرج الصراع الداخلي الذي كانت تعاني منه من خلال إفراطها في شرب الكحول، والتدخين بشراهة، وانخراطها في علاقات مضطربة.

مع أن الكثيرين يقرون بأنها كانت طائشة أحيانا، إلا أنه كانت هناك مواقف كثيرة يمكن وصفها بالبطولة الخالية من الأنانية

ويتتبع الفيلم مصدر الاضطراب في حياة كولفن إلى الفترة التي أصيبت فيها بأعراض ما بعد الصدمة (أو ما يعرف بالإنجليزية ب PTSD) وعودتها بالذاكرة إلى لحظات مروعة. وجزء كبير من أحداث فيلم "حرب خاصة" تدور بالفعل في مراحل خاصة من حياتها ما بين الحروب، ويظهر الفيلم أن صحتها النفسية كانت تتدهور أكثر بعد كل مهمة صحفية تقوم بها. وبحسب الفيلم فإن ما شاهدته هذه الامرأة من عنف هو أكثر مما شاهده معظم الجنود.

لقد كانت كولفن "مدمنة" على الحرب والصدمات الناجمة عنها، بحسب ما قاله المصوّر "بول كونروي"، والذي كان من أحد المقربين من كولفن وكان قد أصيب أيضا في ذات الهجوم الذي أودى بحياتها. وقد ألف كونروي كتابا عن شهادته على لحظاتها الأخيرة. وهذا الكتاب تحول أيضا إلى فيلم وثائقي بعنوان Under the Wire.

 

ما بين البطولة والطيش

في عام ٢٠١٠، ألقت ماري كولفن كلمة في مناسبة رسمية تكريما لمصابي الحرب، وقالت: "علينا دائما أن نسأل أنفسنا إذا كانت القصة تستحق المغامرة من أجلها. ما هي البطولة، وما هو الطيش؟". فيلم "حرب خاصة" يتجنب إظهار كولفن كبطلة بالمعنى المطلق للكلمة، وفي أجزاء منه يصورها كطائشة إلى حد التهور. ومع أن الكثيرين يقرون بأنها كانت طائشة أحيانا، إلا أنه كانت هناك مواقف كثيرة يمكن وصفها بالبطولة الخالية من الأنانية. الكثير من هذه المواقف أتت على ذكرها الصحفية (وإحدى مؤسسات شبكة ماري كولفن للصحفيات) ليندسي هيلسم في كتابها الجديد “In Extremis”  والذي يتناول حياة ماري كولفن.

في عام ١٩٩٩ مثلا، قررت كولفن مع مجموعة من الصحفيات البقاء في مخيم للاجئين في إقليم تيمور الشرقية، حيث كان ١٥٠٠ مدنيا يحتمون من الميليشيات المسلحة، وكان أغلب الصحفيين والعاملين في الأمم المتحدة قد غادروا المكان. وبحسب بعض الروايات، فإن قرارهن البقاء في المخيم ساهم في الحيلولة دون حدوث مجزرة هناك. كولفن لم ترسل تقريرا عن ذلك المخيم، وقالت لمدير التحرير إنها كانت مشغولة بمساعدة اللاجئين.

خلال الحرب الأهلية في لبنان عام ١٩٨٧ غطت كولفن أهم خبر في سيرتها المهنية في تلك الفترة، وذلك عندما تمكنت من الدخول إلى مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين، والذي كان محاصرا من قبل ميليشيات مدعومة من سوريا. قامت آنذاك بمساعدة الطواقم الطبية التي كانت عالقة داخل المخيم، وشاهدت شابة فلسطينية تلقى حتفها برصاص الميليشيات. وقد قالت كولفن لأصدقائها فيما بعد إن تلك الذاكرة طاردتها في كوابيس لعدة أعوام.

قرار كولفن إعطاء مقابلة على الهواء مباشرة من مدينة حمص المحاصرة، والتي تم تجسيدها في الدقائق الأخيرة من الفيلم (استخدم المخرج المقاطع الأصلية من تلك المقابلة) كان أكثر القرارات شجاعة. المبنى الذي أجرت منه المقابلة تم استهدافه بعد ساعات من البث.

فيلم "حرب خاصة" يتحدى المفهوم السائد بأن تغطية الحرب هي للرجال فقط، إذ تظهر ماري كولفن في الفيلم وهي تحمل كتابا بعنوان "وجه الحرب" للمراسلة الحربية مارثا جيلهورن، والتي اشتهرت في القرن العشرين. هذه الجزئية في الفيلم تهدف لتذكير المشاهد بأن ماري كولفن كان واحدة في صف من المراسلات الحربيات الشجاعات.