hello world!

ليس الصحفيون بمأمن من الأزمات النفسية التي تنجم عن العمل في مناطق النزاع. ومع ذلك فإن أغلبهم يترددون في التحدث بصراحة عن تجاربهم، ويخشون أن تعتبر هذه الأزمة علامة ضعف. تحدثنا مع ثلاث صحفيات يؤمنّ بضرورة النقاش وبأسلوب مفتوح في هذه القضية، وإلا فإن الكثير من الصحفيين سيعانون بصمت. ولذا يشاركننا هنا بتجاربهن الشخصية.

في صيف عام 2014، زارت المصورة داليا خميسي عيادة طبيبة نفسية في بيروت لتطلب النصيحة. فقد كانت تمر بنوبة جديدة من الأرق والقلق والاكتئاب والغضب. كانت مرهقة من كثرة العمل وتواجه صعوبة في التعامل مع أصدقائها الذين يعملون خارج مجالها المهني.

"عندما وصفت الأعراض التي كنت أعاني منها للطبيبة النفسية، قالت أنني أمر بأزمة ناجمة عن تراكم الصدمة (Extreme Cumulative Stress Disorder). لكن الجيد في الأمر هو أنني في طريقي للتعافي من هذه الأزمة لأنني أدرك أن هناك مشكلة وأريد أن أعالجها."

ومع أن داليا لا تعمل كمصورة على خطوط التماس في مناطق النزاع، إلا أن للحرب حضورا بارزا في حياتها.  

كانت مهمتها الصحفية الأولى عام 2004، حيث كانت توثق أزمة اللاجئين العابرين من العراق إلى الأردن. وبعد ذلك عاشت حرب تموز عام 2006 في لبنان، وهي الآن تعمل على توثيق مأساة اللاجئين السوريين، بالإضافة إلى مشروعها الخاص مع أسر بعض اللبنانيين المفقودين منذ الحرب الأهلية، والذين يقدر عددهم بسبعة عشر ألفا. المآسي التي تشهدها داليا بشكل مستمر، ومعاناة الآخرين، أثرت عليها بشكل كبير، ولذا فإنها ترى أن الوضع النفسي الذي تعيشه الآن هو نتيجة طبيعية لذلك. "لا يوجد هناك ما يدعو للخجل. أي إنسان طبيعي معرض للمرور بما مررت به."

الغريب هو أنني لم أكن أبكي. كان الأمر وكأن خزانا من الماء تجاوز سعته، فانفجر.

وترى داليا أن حرب لبنان عام 2006 كانت بداية سلسلة الصدمات النفسية التي مرت بها، إذ كانت آنذاك تعمل محررة صور لوكالة الأسوشييتد بريس.

"في أحد الأيام، عدت إلى مكتبي بعد استراحة الغداء ووجدت قرصا مدمجا يحتوي على صور من إحدى المناطق التي تعرضت للقصف. كانت الصور مروعة لدرجة أنني كدت أتقيأ. ولكن مع مرور الوقت، تعودت على رؤية هذه الصور لدرجة أنني أصبحت أتناول غدائي أثناء العمل في نفس الوقت."

تمكنت داليا طيلة فترة الحرب من الحفاظ على تماسكها وهدوئها والتركيز على عملها. ولكن عندما انتهت الحرب، بدأت علامات الإرهاق والصدمة بالظهور. في أحد الأيام، جلست داليا على مكتبها، وانهمرت دموعها دون توقف لأربع ساعات متواصلة. "الغريب هو أنني لم أكن أبكي. كان الأمر وكأن خزانا من الماء تجاوز سعته، فانفجر."

 

بصمات الأصابع

قليل من الصحفيين مستعدون للتحدث عن تجربتهم بنفس الصراحة التي تتحدث بها داليا. بعض الصحفيين الذين أقروا بأنهم يعانون من الصدمة ويتلقون العلاج النفسي اعتذروا عن إجراء مقابلة لأنهم لا يزالون يشعرون بالضعف والقلق. بعضهم لا يرغب في تغيير الانطباع السائد بأن الصحفيين قادرون على تحمل معاناة الحرب، وهناك خوف من أن الاعتراف بالصدمة قد يعتبر علامة ضعف.

عبير سعدي هي مدربة متخصصة في شؤون السلامة وتعمل مع صحفيين من ليبيا وسوريا والعراق. ومع أن اختصاصها هو في مجال السلامة الجسدية والميدانية، إلا أن النقاش في المجموعات التي تشرف عليها غالبا ما ينتقل للحديث عن الصدمات النفسية والعاطفية.

"الصحفيون كبصمات الأصابع، لا يشبهون بعضهم البعض. فقد يروي أحدهم حادثة مروعة مر بها دون أن يتأثر بذلك، بينما نجد صحفيا آخر يتأثر بشدة وربما ينهار لمجرد سماع تلك الرواية، وعادة ما يكون ذلك لأن الرواية تعيد إلى أذهانهم تجارب مروا بها."

تتذكر الصحفية الإيطالية "لورا سيلفيا بتاليا" نوبة الهلع التي انتابتها في مدينة ميلان، عندما كانت بصحبة زملائها وتلاميذها في الجامعة التي تعمل فيها حاليا كمحاضرة.

كنت محاطة بتلاميذي وزملائي وكنت خائفة من االوصمة لأنهم ينظرون إلى كبطلة. فذهبت إلى الحمام وأغلقت الباب على نفسي وبدأت أتنفس بعمق     

وتقول لورا، التي عملت في العراق وسوريا وليبيا واليمن: "أنا أكتب تقارير عن معاناة الناس منذ أكثر من عشرة أعوام." ولكن النوبة لم تصبها إلا عندما كانت في مكتبها في مدينة ميلان. في ذلك اليوم، كانت هناك تظاهرة ضد قمة لمجموعة الدول الثماني الكبرى. صوت المروحيات التي كانت تحوم فوق مبنى الجامعة أعاد إلى ذهنها ذكريات الحروب، عندما كانت تسمع نفس الصوت.  

"شعرت برعب شديد. أردت أن أصرخ وأن أبكي وأن أهرب. شعرت وكأن الموت قادم إلي. في ذلك اليوم كنت محاطة بتلاميذي وزملائي وكنت خائفة من االوصمة لأنهم ينظرون إلى كبطلة. فذهبت إلى الحمام وأغلقت الباب على نفسي وبدأت أتنفس بعمق."     

ذهبت لورا أيضا إلى طبيبة نفسية وقررت أن تعالج الأمر كي لا يصبح أسوأ. "لدي زملاء يعانون من "اضطراب ما بعد الصدمة" (PTSD) وأعرف مدى تأثيره عليهم، ولا أريد أن يحدث لي ذات الشيء."

اضطراب ما بعد الصدمة، أو PTSD، هو من أسوأ الحالات النفسية التي قد تصيب الإنسان عندما يشهد أو يتعرض لحادث صادم أو مروع. وعلى العكس من الأزمات النفسية الأخرى الأقل شدة، والتي يمكن علاجها أو التغلب عليها بأساليب بسيطة، فإن أزمة ما بعد الصدمة قد تزداد سوءا مع الوقت إذا لم يتم علاجها بالأسلوب الصحيح، وقد تصل إلى درجة تعطل قدرة الإنسان على مواصلة حياته بشكل طبيعي.

تقول مراسلة قناة الجزيرة في بيروت بشرى عبد الصمد إنها أصيبت بأزمة ما بعد الصدمة قبل عدة أعوام، وهي الآن تعمل على إنشاء مركز مختصص بشؤون العناية الصحة النفسية للصحفيين في لبنان.      

"لو أنني تحدثت أكثر مع الأشخاص الذين كانوا يمرون بما كنت أمر به أثناء تغطية الحروب، ولو أنني اتبعت تعليمات السلامة الميدانية بشكل أكثر جدية، لما كنت أصبت بهذه الصدمة. لفترة طويلة لم أكن قادرة على فهم الحالة التي كنت أمر بها. بما أنني أعيش في منطقة حرب، كنت أعتقد أن الضغط والقلق الذي ينتابني هو أمر طبيعي يصيب الجميع ولذا لم أكن أتحدث بالأمر."

في عام 2007، بدأت حالتها النفسية تؤثر سلبا على صحتها الجسدية، إذ أصيبت بانزلاق غضروفي واضطرت للخضوع لعمليات جراحية. لكن ذروة الأزمة حدثت قبل دقائق من مقابلة كان يفترض أن تجريها على الهواء مباشرة مع قناة الجزيرة، أثناء تغطيتها لانفجار سيارة في الضاحية الجنوبية في بيروت.

"كنت في موقعي وانتظرت ثلاثين دقيقة قبل أن يأتي دوري للتحدث على الهواء مباشرة. فجأة، بدأت أشعر بالدوخان ولم أعد قادرة على التنفس وأصبحت أرتجف، فاضطررت للنزول وأخبرت غرفة الأخبار أنني لا أقدر على إجراء المقابلة."

لا تزال بشرى تتلقى العلاج النفسي وتقرأ مقالات متخصصة عن أزمة ما بعد الصدمة كي تتمكن في المستقبل من دعم الصحفيين من خلال مشروعها لإنشاء مركز متخصص. وترى أن التوعية في هذا الموضوع مطلوبة بشكل كبير في لبنان والمنطقة.

 

التعامل مع حالة الإنكار والتقرب المفرط من الضحية

لو أنني تحدثت أكثر مع الأشخاص الذين كانوا يمرون بما كنت أمر به أثناء تغطية الحروب، ولو أنني اتبعت تعليمات السلامة الميدانية بشكل أكثر جدية، لما كنت أصبت بهذه الصدمة

تقول الأخصائية النفسية غيدا الحسيني إن الكثير من مرضاها يعيشون حالة من الإنكار ولا يقرون بالأزمة التي يمرون بها، ولذا فإن الكثير من الوقت خلال الجلسات يتم تخصيصه لحثهم على إدراك الأزمة. "منهم من لا يريد أن يقبل أنه يعاني من أزمة ما بعد الصدمة، ولذا فإنني أخصص كثيرا من الوقت كي اشرح ما حدث لهم والأسباب وراء الأعراض التي تنتابهم."

ومن أكبر التحديات إقناع الصحفيين بأن الإرهاق النفسي والعاطفي الذي يمرون به ليس جزءا من وظيفتهم ولذا يجب التصدي له ومعالجته. "بعضهم يقولون أحيانا إن الأزمة النفسية هي جزء من المهنة. كلا! ليس الأمر كذلك! هذا ليس جزءا من المهنة ولا بد للصحفيين أن يعالجوا أنفسهم. حتى الأخصائيين النفسيين بحاجة لعلاج أنفسهم. كيف يمكنني أن أعتني بمن يراجعون عيادتي دون أن أعتني بنفسي؟"

لكن أغلب الصحفيين الذين يعملون على تغطية النزاعات في المنطقة اليوم يعيشون في أماكن لا تتوفر فيها فرص الحصول على استشارة نفسية متخصصة. تقول غيدا إنه في هذه الحالات يجب على الصحفي أن يتخذ إجراءات احترازية للحد من احتمال التعرض لأزمة أو صدمة نفسية.  "من أهم الأمور التي يجب مراعاتها تجنب الإفراط في التقرب من الضحايا إلى حد يؤدي إلى التماثل في الشعور النفسي، وإن كان معروفا أن الخط رفيع جدا .. حتى أن الصحفيين المحترفين معرضون لتجاوزه أحيانا."               

قد ينخرط الصحفي كثيرا في حدثٍ معين أو معاناة شخص ما إلى درجة أنه يصبح يعاني من ذات المشاعر السلبية والأحاسيس التي يمر بها الأشخاص أو الضحايا الذين يتعامل معهم. ولكن حتى إذا تجنب الصحفي الوصول إلى هذه المرحلة فإنه كثيرا ما يشعر بالذنب أو المسؤولية تجاه الأشخاص الذين يلتقي معهم، ما يخلق عبئا نفسا كبيرا.

هذا هو العبء الذي شعرت به داليا عندما كانت تعمل على مشروعها الخاص مع أسر بعض المفقودين في الحرب الأهلية اللبنانية، والمقدر عددهم بسبعة عشر ألفا. "كلما نشرت صورة على الإنترنت تصلني تعليقات كثيرة من أشخاص يحثونني على مواصلة هذا العمل أو يعربون عن صدمتهم وحزنهم لقراءة هذه القصص. وقد وصل الأمر إلى درجة أنني أصبحت أشعر بعبء ومسؤولية كبيرة على عاتقي وفي لحظة ما لم أكن قادرة على الاستمرار."

وتقول غيدا إنه بالإضافة إلى إدراك الفرق ما بين التعاطف المبرر والتقرب المفرط من الضحية، فإنه يجب على الصحفيين أن يعتنوا بأنفسهم باتباع أساليب صحية بسيطة كتمارين التنفس العميق وممارسة الرياضة. فتعليمات الصحة الأساسية لها أثر ملحوظ على الصحة النفسية والعاطفية.  "علاج الصدمة النفسية لا يتطلب التوقف عن العمل، ولكن يجب أن يمنح الصحفي نفسه الفرصة للاستراحة حتى يتمكن من العودة للعمل بشكل طبيعي."

داليا ولورا تقولان إنهما قادرتان الآن على التعامل مع وضعهما النفسي دون الحاجة لجلسات استشارة نفسية. بالنسبة لداليا فإن التمارين الرياضية والغذاء الصحي يساعدان بشكل كبير.

تقول داليا: "إذا لم يكن لدي الوقت الكافي للجري فإنني أقوم بالقفز داخل منزلي، حتى لو لعشرة دقائق، فهي تكفي. وإذا انشغلت في العمل وتوقفت عن أداء التمارين والاعتناء بنفسي فإن أعراض القلق والتوتر تعود إلي." لورا أيضا تؤدي تمارين التنفس وتقول إنها تستمد القوة والدعم أيضا بالتمتع بأبسط الأمور في الحياة.

"بدأت أتمتع بالطبيعة بشكل أكبر. أحب العمل في الحديقة والاعتناء بالنباتات والتأمل بالمناظر الطبيعية." وتستمد لورا الدعم أيضا من صحبة أشخاص إيجابيين. "لا أريد أن أكون وحيدة بعد اليوم. ولذا بدأت أكوّن صداقات مع أشخاص جيدين لا يطلقون أحكاما، كما أتحدث كثيرا من النساء ونتشارك بخبراتنا."

أما بشرى عبد الصمد فقد توقفت عن أداء المقابلات على الهواء مباشرة وتركز بدلا من ذلك على التقارير التلفزيونية المسجلة. وتقول إنها محظوظة لأنها تتمتع بدعم من قناتها التي ساندتها خلال تلك الفترة العصيبة. "يجب على الصحفيين أن يحترموا مشاعرهم، لا أن يقاوموها. مشاعر الصدمة و القلق هي مشاعر إنسانية، يجب أن تعتنوا بأنفسكم منذ البداية، وبمجرد أن تشعروا بأعراض الصدمة، قبل أن يصل الأمر إلى مرحلة صعبة جدا."